لا يزال كاتب هذه السطور في حيرة من أمره بالنسبة للتوقيت الذي اختارته حكومة السودان للتقدم بطلبها للانضمام لمجموعة شرق أفريقيا الاقتصادية. فبالرغم من أن المجموعة ظلت قائمة في شكلها الحالي منذ توقيع اتفاقية إنشائها في 30 نوفمبر من عام 1999 فإن حكومة السودان لم تتقدم بطلبها إلا قبل أشهر قليلة من استقلال جنوب السودان في يوليو 2011. كان من الطبيعي أن يتم وقتها الاعتذار عن قبول طلب السودان باعتبار أن الرؤيا حول مستقبل السودان الموحد لم تكن واضحة ، كما برز بوضوح احتمال فقدان جمهورية السودان لحدودها المباشرة مع الدول الأعضاء بالمجموعة. في حديثه لأجهزة الاعلام الأسبوع الماضي أشار الأمين العام للمجموعة إلى أن السودان يمكن أن يتقدم بطلبه مرة اخرى بعد اتخاذ قرار حول طلب العضوية المقدم من جانب حكومة جنوب السودان والذي سبق أن ارجئ النظر فيه بسبب عدم كفاية البيانات. وألمح الأمين العام إلى أنه من المتوقع قبول الطلب االذي تقدمت به حكومة الجنوب في المستقبل القريب ، مما يجعل السودان مؤهلاً عندئذٍ للتقدم بطلبه مرة أخرى على حد قوله. وبالرغم من أن طلب حكومة جنوب السودان لم يبت فيه حتى الآن إلا أن الدول الأعضاء تبدي حماساً لانضمامها ، وقد وجدت مشاركة دولة الجنوب في الدورة المدرسية لمجموعة شرق أفريقيا بيوغندا الأسبوع الماضي ترحيباً حاراً من جانب الرئيس اليوغندي يويري موسيڤيني الذي أشاد في الكلمة التي ألقيت نيابة عنه بالمشاركة الأولى لجنوب السودان في الدورة ، كما أن حكومة الجنوب دخلت في اتفاقيات للتعاون الجماعي مع بعض دول المجموعة حتى قبل انضمامها. وجود حدود مشتركة للدولة مع بعض اعضاء مجموعة شرق أفريقيا لا يعني قبولها بصورة تلقائية إذ أن المجموعة تضع شروطاً عدة للحصول على العضوية. ومن بين هذه الشروط تطبيق مبادئ الديمقراطية وحكم القانون ، ومراعاة حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية ، والمساهمة في تقوية وترسيخ أسس التكامل الاقتصادي والسياسي في الإقليم ، والالتزام بنظام السوق الحرة في إدارة الاقتصاد. وإذا ما أخذنا في الاعتبار علاقات السودان المتوترة مع دول مؤثرة داخل المجموعة مثل يوغندا فإننا لا نتوقع أن يكون قبول عضوية السودان أمراً سهل المنال ، ومن المتوقع أن تستغل هذه الجهات غموض الشروط التي أشرنا لها أعلاه للعمل على عرقلة انضمام السودان خاصة وأن سجله في بعض هذه المجالات يتعرض للكثير من الانتقاد على المستوى الدولي. ولا بد في هذه الحالة من حملة دبلوماسية واسعة ونشطة وسط الدول الأعضاء لدعم طلب السودان ، خاصة وأن بعض الجهات ترفع اعتراضات أخرى على عضوية بلادنا مثل التخوف من أن تؤثر قوة الاقتصاد السوداني على المقدرات التنافسية للدول الأخرى. سبق أن حملت الصحافة وأجهزة الإعلام الكينية مقالات تحذر من الموافقة على انضمام السودان للمجموعة بدعوى أن ذلك يمكن أن يقود إلى تصدير العديد من الوظائف من السوق الكينية للسوق السودانية بفضل إمكانيات السودان الاقتصادية الكبيرة. وقد أشار بعض الخبراء الاقتصاديين في كينيا للخطأ الذي ارتكبته بلادهم بالموافقة على انضمام مصر للكوميسا وما نتج عنه من كساد في سوق التوظيف. ولعل التنافس الكبير على السوق النامية بجمهورية جنوب السودان والميزات التفضيلية التي تتمتع بها المنتجات السودانية هناك قد تزيد من قلق هذه الجهات. من ناحية أخرى ، فإن البعض يتخوف كذلك من أن يؤدي انضمام السودان إلى محاولات مصرية للانضمام للمجموعة ، خاصة وأن دور السودان كان فاعلاً في حصول مصر على عضوية الكوميسا. لا يختلف إثنان بأن جمهورية جنوب السودان تمثل جسراً رابطاً بين السودان ومنطقة شرق ووسط أفريقيا وربما أفريقيا جنوب الصحراء بصفة عامة ، ولا شك أن أي توتر في العلاقات السودانية الجنوبية ينعكس سلباً على علاقات السودان بالدول الافريقية إلى الجنوب. عليه فإن انضمام السودان لمجموعة شرق أفريقيا وقيامه بدور فاعل داخلها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى تقدم علاقاته مع جنوب السودان ، ليس لأن حكومة الجنوب تتمتع بحق الفيتو داخل المجموعة ولكن لأن علاقات السودان مع الجنوب كانت على مدى تاريخنا الحديث أحد العوامل الحاسمة في نجاح أو فشل الكثير من تحركاتنا داخل القارة الأفريقية. ومما يؤكد هذه الحقيقة فإن العلاقات السودانية الأفريقية شهدت واحدة من أزهى فتراتها خلال السنوات القليلة التي أعقبت توقف الحرب في الجنوب بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا بين الحكومة وحركة تحرير جنوب السودان في عام 1972. كما يؤكد ذلك الاستقبال الحار الذي قوبل به التوقيع على اتفاق السلام الشامل في عام 2005 من جانب الدول الأفريقية. ومما يؤسف له أن الطرفين الموقعين على اتفاق السلام الشامل لم يستفيدا من هذه الفرصة السانحة ، بل كان استمرار التوتر والمكايدات في علاقاتهما خلال الفترة الانتقالية وبعد انفصال (استقلال) الجنوب السبب الرئيس وراء تبديد هذا الرصيد الهائل من حسن النية. لسنا في حاجة لتأكيد أهمية انضمام السودان للمجموعة وهو أمر تم حسمه عندما تقدم السودان بطلبه الرسمي للأمانة العامة ، وإن أخطأت الجهات المعنية في التوقيت. فبالإضافة للفوائد الاقتصادية العديدة التي يمكن أن تعود على السودان من التعاون مع دول المجموعة التي تربطه بالكثير منها منظمات إقليمية أخرى ، فإن المجموعة تتيح للسودان وجنوب السودان منبراً جديداً يمكن أن يساهم في تجاوز الخلافات القائمة بينهما. كما أن وجود السودان في المجموعة يتيح له باباً آخر نحو الانفتاح على القارة الأفريقية ، وهو أمر قد يتطلب في اعتقادنا تبني بعض القرارات الاستراتيجية المهمة في توجهات سياستنا الخارجية. كما أن السودان يمكن أن يستفيد من وجوده داخل المجموعة للعمل على تطبيع وترقية علاقاته مع بعض القوى الدولية المهمة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوربي اللذان تربطهما بالمجموعة علائق وثيقة. ولا شك أن تصريحات الأمين العام للمجموعة والتي أشرنا لها أعلاه تمثل فرصة اخرى أمام السودان ليعاود الكرة من أجل الحصول على عضوية هذه المجموعة المهمة ، غير أن الطريق نحو تحقيق هذا الهدف ليس ممهداً ويحتاج للكثير من الجهد المنظم والمنسق كما يحتاج قبل ذلك للاستفادة من الأخطاء التي وقعت في الماضي. ومن حسن الحظ أن سفير السودان في العاصمة التتزانية معتمد لدى المجموعة مما يؤكد اهتمام السودان بعلاقاته بها ، ويقيننا أن السفير يبذل قصارى جهده من أجل تطوير العلاقات مع المجموعة ويسعى لحصول السودان على عضويتها. إلا أن جهود السيد السفير تحتاج لدعم قوي من جانب الحكومة التي يجب أن تدرس استراتيجيتها بدقة متناهية ، ولا بد من إشراك جهات أخرى من خارج الحكومة مثل اتحاد أصحاب العمل وغيره من منظمات المجتمع المدني باعتبارها من أصحاب المصلحة الحقيقية وبفضل الصلات الوثيقة الي تربط هذه المنظمات برصيفاتها في الدول الأعضاء بالمجموعة. ولعل الدراسة المتعمقة لديناميكية الحراك بين مكونات المجموعة نفسها يمثل الخطوة الجادة الأولى نحو الحصول على عضويتها وضمان دور بارز للسودان داخلها. والمتابع للأحداث في المنطقة خلال الأسابيع القليلة الماضية يدرك دون أدنى شك أحجام ومواقع مراكز القوى المختلفة داخل المجموعة وهو الأمر الذي يجب أن يدرسه بعناية الطرف السوداني حتى يتمكن من استغلال هذه الحقائق للوصول إلى الهدف الذي يسعى من أجله. كما تواجه المجموعة خلال الفترة الحالية عدداً من القضايا الملحة مثل توتر العلاقات بين الرئيسين التنزاني والرواندي بالدرجة التي جعلت الرئيس كاغامي يتغيب عن كل القمم التي عقدت في تنزانيا خلال السنوات الاخيرة ، كما أن الحكومة الرواندية تتهم الأمانة العامة للمجموعة بعدم التحرك بصورة فاعلة لإيجاد حل لمشكلة ستة آلاف رواندي طردوا من تنزانيا في أبريل الماضي. غير أن التوتر في العلاقات بين البلدين لم يمنع رواندا من زيادة حجم تجارتها عبر ميناء دار السلام بالمقارنة مع تلك التي تمر عبر ميناء ممباسا ، مما يشير إلى أن المجموعة قد بلغت درجة من النضج بحيث لا تنعكس الخلافات السياسية بين الدول الأعضاء على مصالحها الاقتصادية. برزت خلال الفترة الأخيرة بعض التحالفات داخل المجموعة وذلك عندما قام عدد من الدول الأعضاء بتنفيذ مشروعات اقتصادية على مستوى هذه الدول خارج إطار المجموعة كتوسيع المرابط في ميناء ممباسا لخدمة يوغندا وجنوب السودان ورواندا وربما شرق الكونغو الديمقراطية. هذا فضلاً عن أن عدداً من الدول اتخذ خطوات متقدمة نحو التكامل كتوقيع كل من كينيا ويوغندا وجنوب السودان على اتفاق حول تأشيرة سياحية موحدة لهذه الدول وتنقل المواطنين فيما بينها بالبطاقة الشخصية. على الجانب الآخر ، شهد برلمان المجموعة شيئاً من التوتر خلال الأسبوع الماضي عندما انسحب النواب التنزانيون احتجاجاً على محاولات نواب الدول الأخرى لنقل اجتماعات البرلمان من أروشا على خلاف ما ورد في النظام الأساسي للبرلمان. تم في النهاية التوصل لحل وسط يقضي بأن يعقد اجتماعان للبرلمان خلال العام في تنزانيا أحدهما في مقر البرلمان بأروشا على أن يتم تداول انعقاد بقية الجلسات بين الدول الأعضاء الأخرى. من ناحيته ، يرى الأمين العام أن المجموعة تسير بخطى حثيثة نحو التكامل بالرغم من اختلاف مواقف الدول الأعضاء حول وسائل وتوقيت الوصول للهدف النهائي. الذي يعنينا في هذا الأمر هو أن على الحكومة السودانية أن تدرس بعناية العلاقات المعقدة بين دول الجموعة والتدافع داخل مؤسساتها المختلفة بالإضافة لعلاقات السودان الثنائية مع مع كل دولة من هذه الدول لاتخاذ القرار المناسب الذي يخدم مصالح البلاد. Mahjoub Basha [[email protected]]