أوردت صحيفة "تنزانيا ديلي نيوز" في عددها الصادر بتاريخ الثاني من ديسمبر الحالي أن قمة مجموعة دول شرق أفريقيا التي انعقدت بالعاصمة الكينية أرجأت للمرة الثانية اتخاذ قرار بشأن الطلب المقدم من حكومة جنوب السودان للانضمام للمجموعة. كانت حكومة الجنوب قد تقدمت بطلب الانضمام في أعقاب استقلال البلاد العام الماضي ، وقد سبق أن تداولت القمة حول الطلب في دورة انعقادها السابقة بالعاصمة البوروندية في أبريل من هذا العام وأوصت بتكوين لجنة من الخبراء للتقرير بشأن مدى أهلية جنوب السودان والصومال التي تقدمت هي الأخرى بطلب مماثل للانضمام للمجموعة. ويبدو أن تقرير الخبراء لم يكن إيجابياً ، لذلك فقد وجهت القمة الأخيرة المجلس الوزاري بمتابعة الاتصال بحكومة جنوب السودان من أجل الاتفاق حول المطلوبات التي تمهد الطريق نحو انضمامها للمجموعة. المعروف أن المجموعة سعت عند استقلال الجنوب على تشجيع الحكومة هناك لتقديم طلب الانضمام ، بل إنها بعثت بأحد كبار مسئوليها إلى جوبا للقاء القيادة الجنوبية وإقناعها بمزايا الانضمام للمجموعة. كانت حكومة السودان قد تقدمت هي الأخرى في ذلك الوقت بطلب مشابه غير أنه لم يجد الترحيب من جانب الدول الأعضاء خاصة وأنه قدم بعد استقلال الجنوب وبعد أن فقد السودان حدوده المباشرة مع كل من كينيا ويوغندا وهو أحد شروط الانضمام. لم تحدد القمة الأسباب وراء تأجيل البت في طلب حكومة الجنوب ، غير أنه من المعلوم أن القانون الأساس للمجموعة يشتمل على عدد من الشروط التي يجب على الدول الالتزام بها قبل الانضمام. ومن بين هذه الشروط الديمقراطية وحكم القانون ، ومراعاة حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية ، المساهمة في تقوية وترسيخ أسس التكامل الاقتصادي والسياسي في الإقليم ، والالتزام بنظام السوق الحرة في إدارة الاقتنصاد. وقد سبق لوزير شئون المجموعة الكيني أن صرح في وقت سابق أن المناوشات المتكررة بين دولة الجنوب وجارتها الشمالية لن تكون في صالح الطلب المقدم من حكومة الجنوب للانضمام للمجموعة ، مما يشير على تردد حكومته في دعم طلب الجنوب حتى لا تبدو وكأنها طرف في الصراع الدائر بين جوبا والخرطوم. ولعل التصريحات التي أدلى بها مصدر وصف بانه قريب من صناعة القرار في الخارجية اليوغندية كانت أكثر صراحة في توضيح الأسباب التي جعلت القمة تتردد في الموافقة على طلب حكومة الجنوب. يقول المصدر اليوغندي أن حكومة الجنوب غير جاهزة تماماً للانضمام للمجموعة ، مشيراً إلى أن للحكومة مشاكل عدة تتعلق بكيفية إعداد وتنفيذ ميزانية الدولة تجعل من الصعب عليها الانضمام للمجموعة في الوقت الحاضر. ومضى المصدر للقول بأن المسمار الأخير في نعش الطلب الجنوبي بالانضمام تمثل في عجز حكومة جنوب السودان عن تسديد فواتير الشركات اليوغندية والكينية العاملة في الجنوب. والمعروف أن رجال الأعمال الذين ينشطون في السوق الجنوبية ظلوا يواجهون العديد من المشاكل فيما يتصل بتحصيل مستحقاتهم بسبب ضعف السيولة في جوبا ، كما أن بعض العقبات الإدارية ظلت توضع أمام رجال الأعمال اليوغنديين الذين وفدوا للبلاد بأعداد كبيرة بعد استقلالها. ويشكو الكثير من الجنوبيين من سيطرة اليوغنديين على السوق في جوبا وغيرها من مدن الإقليم ، ومن سيطرة كينيا على القطاع النقدي عبر النشاط الذي تقوم به فروع مصارفها العاملة في جنوب السودان. ليس غريباً أن تسعى حكومة الجنوب للانضمام لمجموعة شرق أفريقيا ، فهي بالاضافة لما تأمل في تحقيقه من فوائد اقتصادية وسياسية من وراء هذه الخطوة فإنها تحاول أن تؤكد أيضاً هويتها الأفريقية التي كانت ولا زالت تمثل مرتكزاً مهماً للغاية في تأكيد شخصيتها القومية في مقابل شمال السودان ، ولا شك أن انضمامها للمجموعة يشبع رغبتها في الاعتراف بها كدولة مستقلة كاملة السيادة. من جهة أخرى فإن روابط الجنوب الثقافثة والسياسية والتاريخية بشرق أفريقيا لا تخفى على أحد ، وربما كانت هذه الروابط وراء اقتراح الحاكم العام في عام 1945 لدولتي الحكم الثنائي بأن يتم ضم الجنوب للمستعمرات البريطانية في شرق أفريقيا أو يجري تقسيمه بين السودان وهذه المستعمرات. كان من الطبيعي عندئذ أن تقاوم الحركة الوطنية السودانية هذا الاتجاه الذي أعرب عنه الحاكم العام فسعت نحو الربط الوثيق بين استقلال البلاد وبقاء الجنوب جزءاً لا يتجزأ من أرض الوطن. الغريب في الأمر أن السلطات الاستعمارية في كينيا عندئذٍ لم تبد حماساً تجاه مقترح الحاكم العام بضم الجنوب لشرق أفريقيا فوئدت الفكرة في مهدها. كانت دول شرق أفريقيا كذلك وبصفة خاصة يوغندا وكينيا تمثل مصدر الدعم الأكبر للحركات العسكرية والسياسية في جنوب السودان منذ نشأتها في مطلع العقد السابع من القرن الماضي ، حيث كانت يوغندا تستقبل مئات الآلاف من اللاجئين السودانيين من الجنوب وتستضيف كل الحركات السياسية والعسكرية الجنوبية وتوفر لها معسكرات التدريب والمكاتب السياسية. أما كينيا فقد كانت تمثل المركز الإعلامي الأهم بالنسبة للحركات السياسية الجنوبية ، خاصة وأنها كانت ولا زالت قبلة الإعلام العالمي الذي يقوم بتغطية شرق وجنوب أفريقيا. لعبت التقارير الأخبارية التي تصدر من نيروبي دوراً كبيراً في اختزال مسألة الجنوب في الصراع بين الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي المسيحي. ودون التقليل من مسئولية الحكومات الوطنية ، فإن هذه الصورة بالرغم من بعدها عن الحقيقة كانت وراء الكثير من المشاكل التي واجهتها الحكومات السودانية المتعاقبة ، كما كانت أحد الأسباب المهمة لما آلت إليه الأمور في النهاية. من الصعب القطع بما إذا كان شعب جنوب السودان نفسه يؤيد خطوة الانضمام لمجموعة شرق أفريقيا أم أنه يعارضها فليس هناك من وسائل لقياس الرأي بما يؤكد أو ينفي ذلك. غير أن هناك بعض الأصوات التي ترتفع من حين لآخر للقول بأن التوقيت غير مناسب لمثل هذه الخطوة ، وأن على حكومة الجنوب في هذا الوقت إعادة ترتيب البيت من الداخل قبل أن تقدم على أي خطوات تكاملية مع دول أخرى. ويقول هؤلاء أن دستور المجموعة لا يشتمل على مواد تتحدث عن الدفاع المشترك في حالة تعرض أي دولة من دولها لاعتداء خارجي ، لذلك فإن الانضمام لن يفيد حكومة الجنوب إذا كانت تعتقد أنها يمكن أن تستقوي بدول المجموعة في حالة أي اعتداء من جانب السودان. كما أن البعض يشكك حتى في الفوائد الاقتصادية التي يمكن أن يجنيها الجنوب من انضمامه للمجموعة. فمن جهة ، إن تمكنت البلاد من استئناف تصدير النفط بالكميات المأمولة فإن ذلك سيؤدي لارتفاع في قيمة الجنيه الجنوبي مما سيقود لإضعاف مقدرة السلع والمنتجات الجنوبية على المنافسة في سوق شرق أفريقيا المفتوحة. ومن جهة أخرى ، فإن ضعف المصارف والمؤسسات والشركات الجنوبية يضعف من مقدراتها التنافسية ، كما أن الاتفاق الذي يؤكد على الالتزام بقوانين السوق الحرة لن يمكن حكومة الجنوب من دعم الشركات والمؤسسات الجنوبية في وجه المنافسة من جانب الأعضاء الآخرين. ربما كان من المناسب للحكومة في الجنوب أن تستفيد من الفترة التي أتيحت لها قبل البت في طلبها وذلك بتوسيع دائرة الحوار القومي حول الموضوع بما يتيح لها دعم الرأي العام في البلاد ، كما يمكنها أن تنتهز هذه الفرصة لمعالجة الأوضاع التي يمكن أن تؤثر سلباً على اقتصادها في حالة الموافقة على انضمامها للمجموعة. أما بالنسبة لحكومة السودان فقد يكون من الأوفق أن تسعى مرة أخرى من أجل الانضمام للمجموعة ، مما سيوفر لها منبراً إضافياً للحوار البناء مع حكومة الجنوب في محاولة لتجاوز أزمة انشطار الوطن خاصة وأن مصالح عديدة ومهمة لازالت تربط بين البلدين. Mahjoub Basha [[email protected]]