كان أهلي الشايقية، ولعلّهم ما زالوا، أبرع من بنى بالطين "الجالوص" في السودان القديم - ربما لأنهم أحفاد بُناة أهرامات نوري. كان "الطيّانة" منهم يهاجرون مع طيور الشتاء القادمة من قر الشتاء في شمال الكرة الأرضية صوب الجنوب، ينتشرون في مدن السودان الأوسط على ضفاف النيلين الأبيض والأزرق، وفي غربه الأوسط؛ يتركون قراهم عند المنحنى الكبير للنيل حين تهدأ وتيرة النشاط الزراعي بين موسم الموالح بداية الشتاء، وموسم حصاد القمح في مارس/أبريل من كل عام. وكان الزمان غير الزمان، والحال غير الحال في في أرياف سودان منتصف القرن العشرين (وحتى في معظم مدنه). كان غالب الناس متساوين في الفقر لكنهم ينامون الليل ملْ أجفانهم. وكان اقتصاد القرية (ومعظم المنطقة وسائر أقاليم السودان) اقتصاد معيشة: يزرع أهلي القمح شتاء والذُرة صيفا لاستهلاكهم خلال العام، ويزرعون خضرواتهم، ويُكملون دخلهم ببيع المحاصيل النقدية (على قِلّتها) مثل التمر والموالح والمانجو، يُسددون بها الطلب (الضرائب)، ويشترون لوازمهم اليومية من لحم (في يومي السوق)، وسكر وشاي وبُن وزيت، واحتياجاتهم المحدودة من الأقمشة القطنية الخشنة والأحذية، مما حتّم إيجاد مصدر دخل آخر تمثل أساسا في البناء بالطين (الجالوص) للمُوسرين (نسبيا) في مدن السودان المختلفة. كان أهلى "الطيّانة" يهجرون قراهم وحقولهم وأسرهم لبضعة اسابيع من كل عام ، خاصة بعد دمار القرية في فيضان النيل في عام 1946، يركبون قطر كريمة مزوّدين "بالقُرّاصة المتمّرة" وغيرها، ويتوجهون جنوبا صوب (بلاد فوق)، قاصدين الأبيِّض وغيرها من مدن داخل السودان، في تايات (فِرَق)مكونة من أسطى (بنّاء) وثلاثة إلى أربعة مساعدين لجلب الماء وإعداد الحوض، وعجن الطين بالأقدام، ونقله في محفّة (عربة) الطين الخشبية التي يحملها إثنان منهم، وتقطيعه إلى قطع في حجم كرة القدم، ومناولتها للأسطى البنّاء. كنت في صباي الباكر في مدينة الأبيض انتظر وفود هذه الطيور المهاجرة بترقب، وكانت (تايتي) المفضلة مكوّنة من الفكي يوسف ود احمودة، كابتن الفريق، وفكي محمد احمد ود قدورة، وعلي عبد الله ود غصين، والحاج علي الكجوري، رحمهم الله جميعا. كانوا يقضون أيامهم المعدودة في الأبيض في أحد البيوت شبه المهجورة المُطلّة على الفضاء الواقع بين "سوق ود عكيفة" و"التُمنة الغربية" (نقطة الشرطة) في غرب المدينة. لا يملكون من متاع الدنيا غير شنطة الملابس الحديدية الصغيرة التي تحتوي على الحد الأدنى من الملابس: جلابية الجمعة الوحيدة، وعرّاقيها (قميصها)، وسروالها، والعمامة، والمركوب، إلى جانب عرّاقي الشغل وسرواله، وكلاهما فوق الرُكبة لضمان حرية الحركة. كانوا ينهضون كل يوم في غبشة الفجر، يصلّون جماعة ثم يتوجهون إلى عملهم القاصم للظهر، تُيبِّس أطرافهم ريح الشتاء الشمالية الجافة. وكان البناء بالجالوص آنذاك فنّاً راقيا يتطلب مهارة هندسية راقية، ولياقة بدنية عالية، ويدا ثابتة، وعينا خبيرة، حتى تستقيم الجدران رأسيا (حتى لا ينبعج الحائط تحت ثقل البناء والسقف)، وأفقيا (لتستقيم الزوايا والنوافذ والأبواب). وكان معظمهم، أو كلهم، حَمَلة قرآن، حفظوه في خلاوي نوري المشهورة، لكنّم تربوا على العمل اليدوي الشاق القاصم للظهر في العمل بالزراعة مما أعدهم خير إعداد لمهنة (الطيّانة). وكان البناء بالطين واللبِن (الجالوص) نتاج لعبقرية الإنسان في تفاعله مع بيئته، ومع عوامل الجغرافيا والتراث والاقتصاد؛ تأتي مواده الخام كلها من البيئة المحلية دون تكلفة تُذكر: تُبنى الجدران من التراب من نفس الموقع؛ والماء من النيل وقنوات الري التي تخترق القرية؛ والسقف من جذوع النخل وفروعه وورقه من غابات النخيل التي تُحيط بالقرية وتُظللها، والحماية من تبليط الجدران والسطح بالروث المُخمّر؛ والأيدي العاملة المتطوعة من الأهل والجيران. و(الجالوص) عازل جيد يكسر حِدّة الهجير صيفا، وقرّ البرد شتاء، ولا يحتاج لصيانة تُذكر عدا تبليطه بالروث كل عدة أعوام. وكان أهلي (الطيّانة) في مدينة الأبيِّض ينهون عملهم قبل اشتداد حر الظهيرة، يُقضّون أغراضهم في سوق (ود عكيفة)، ويشترون ما يلزم لعشائهم، ثم يأوون إلى بيتهم شبه المهجور للقيلولة. وفي المساء الباكر، ينهضون لإعداد وجبة العشاء: عصيدة الدُّخن في (صفيحة) سعة أربعة لترات، وإدامها في نصف صفيحة. ثمّ يجعلون كل ذلك في طبق مهول من (الطّلِس)، ويُقبلون على وجبتهم في شهية لا يعرفها إلا من هدّه العمل اليدوي، وصفا قلبه. وكانت تلك لحظاتي المُفضلة في صُحبة أهلي الطيّانة رغم أن أصابعي، التي لم تخشوشن بعد، كانت تُعاني في قطع العصيدة المتماسكة الخارجة لتوها من القِدْر، وإدامها المغلي، بينما يلتهم أعمامي ما في القصعة بأصابعهم التي حصّنها العمل في الطين البارد، وفي عَزق حقولهم في القرية. ثم يأوون إلى عناقريبهم (أسرّتهم) المفروشة بحصائر السعف المجدول، يرشفون شايهم (الملتهب هو الآخر)، يتبادلون الحكاوي القديمة بذلك الحِس الفكاهي الرفيع الذي يتميّز به (الشايقية)، وبتلك اللهجة المُحببة التي تكثر فيها الإمالة والتصغير، يتوسطهم كومديان (التاية)، والقرية، على عبد رحمه الله، يُضحكهم حتى تدمع أعينهم وتظهر أسنانهم البيضاء الصغيرة، لا يُشغلهم فقرهم وشظف عيشهم وقسوة عملهم بالنهار. ثم يخلدون إلى نوم عميق استعدادا ليوم عمل شاق يبدأ عند الفجر. وفي نهاية الأسابيع القليلة من هذه الهجرة السنوية، يعود اهلي الشايقية إلى قريتهم وحقائب الحديد قد امتلأت بالهدايا للأهل من ملابس وأحذية وغيرها، وفي الجيب بضع دراهم يُعمرّون بها بساتينهم بشتول الفاكهة والبلح، ويسدِّدون بها ديونهم الخاصة والعامة، ويقابلون بها تكلفة التزاماتهم الأسرية من ختان وزيجات. وظلّ معظمهم على هذا الحال حتى داهمهم فيضان النيل في عام 1988 الذي دمّر منازل القرية عن بكرة ابيها، ماسحا جهود أربعة عقود من العمل الشاق والمثابرة (وهذا حديث آخر). ومن فرط محبة الله لأهلي "الطيّانة"، ولصفاء أرواحهم، ونقاء قلوبهم، أخذهم إلى جواره قبل أن يُعاصروا حُكم "قراقوش" الذي منع أكل الملوخية يوم ألأربعاء، ومنع البناء بالطين "الجالوص"!