«الأولاد يسقطون في فخ العميد».. مصر تهزم جنوب أفريقيا    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفاجئ الجميع ويصل القاهرة ويحيي فيها حفل زواج بعد ساعات من وصوله    شاهد بالفيديو.. التيكتوكر الشهيرة "ماما كوكي" تكشف عن اسم صديقتها "الجاسوسة" التي قامت بنقل أخبار منزلها لعدوها اللدود وتفتح النار عليها: (قبضوك في حضن رجل داخل الترام)    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية غير مسبوقة على مواقع التواصل.. رئيس الوزراء كامل إدريس يخطئ في اسم الرئيس "البرهان" خلال كلمة ألقاها في مؤتمر هام    النائب الأول لرئيس الإتحاد السوداني اسامه عطا المنان يزور إسناد الدامر    إسبوعان بمدينتي عطبرة وبربر (3)..ليلة بقرية (كنور) ونادي الجلاء    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    ⛔ قبل أن تحضر الفيديو أريد منك تقرأ هذا الكلام وتفكر فيه    الدب.. حميدتي لعبة الوداعة والمكر    منشآت المريخ..!    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    صلوحة: إذا استشهد معاوية فإن السودان سينجب كل يوم ألف معاوية    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    إجتماع بسفارة السودان بالمغرب لدعم المنتخب الوطني في بطولة الأمم الإفريقية    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإصلاح السياسي في السودان (14): بين هيمنة جهاز الدولة وتعددية قوى المجتمع. بقلم: د. محمد المجذوب
نشر في سودانيل يوم 20 - 11 - 2013

أن هناك قضية تطرح نفسها بشدة، أعني تلك القضية المتعلقة باختلاف الآراء عند القيام بعمليات تأويل نصوص الرؤية الإسلامية، ونصوص الميثاق السياسي المجسد لها، ذلك إنه في الولاية السياسية نجد أن الصفة الأساسية التي تطبعها، روحاً ونظاماً ومؤسسات وسياسات، هي صفة الإيمان، فمن هذه الجهة، إما أن يكون جميع أفرادها على مذهب ديني واحد، يقول تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) {آل عمران/20}، وأما أن يكونوا على أكثر من مذهب في دين واحد، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) {الأنعام/159}، وإما أن يكونوا على أكثر من انتماء ديني واحد، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) {الحج/17}. ويقول: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) {البقرة/62}، وإما أن يكونوا فريق على إيمان ديني حق، وفريق على غير إيمان ديني. يقول تعالى: (وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) {آل عمران176/179}.
ولكنها أي الولاية في الفكر الإسلامي في كل الحالات لا يلازمها الاستبداد، الذي يتخطى الناس بالحكم إلى احتكار النشاط السياسي في المجتمع، لأنه وحتى في حالة الكفر وهي أسوأ صور الأوضاع الدينية، لا يجوز للولاية إكراه الناس على الإيمان بل تترك أمرهم إلى الله، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) {النساء/137}، أما إذا كان سائر جمهور المجتمع على مذهب ديني واحد، فإن الاستبداد تكبحه سلطة الإجماع على مستوى ولاية المجتمع، إذ أن الولاية بوصفها ولاية جماعة المؤمنين لا تملك الولاية على نفسها ولا يملك حاكمها الولاية على أفرادها إلا بموجب توظيف دلالة الخطاب الديني المنزل، هذا الفقه هو الذي يحدد ولاية الحاكم وولاية الولاية في إطار الولاية الشاملة للمجتمع، أي في إطار ولاية الله العليا، وبالتالي يتوحدون من خلال شورى الإجماع، مهما كانت طبيعة هذه الولاية تنفيذاً وقضاءً...الخ، فإن الأمر السياسي لا يتعدى مبدئياً تحقيق ولاية الله، وإرادة الله واحدة ومتعالية، وإن كان موضوعها شئناً دنيوياً، فلا يمكن أن تعارضها إرادة دونها، ولا أن تناقض نفسها.
وعلي هذا فإذا وقع الاختلاف في تأويل الخطاب الإسلامي فثمة إمكان في الولاية الإسلامية للمعارضة السياسية بالمعنى الحقيقي، التي لها نشاطها السياسي في المجتمع، من دون إذن من الحاكم شريطة أن تكون الدعوة إلى المذهب بالطرق السلمية لا بالعنف، يقول تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) {النحل 125/128}، وما دام الحاكم قد تولي الولاية العامة عن طريق مشروع هو طريق الشورى والبيعة والاختيار، إذ المطلوب دوماً الاحتكام إلى الكتاب ليحكم بين المختلفين فيما كانوا فيه مختلفين، يقول تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) {البقرة/213}. ويقول: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ){الشورى/10}، فالمعارضة السياسية تكون مشروعة في الولاية عندما يتم الاعتراف بأن العمل السياسي مبني على الرأي والاجتهاد، وليس حقيقة ثابتة ثبوتاً قطعياً، بل هو في أسوأ الحالات تعبير عن اعتبارات ذاتية وهوي محض، وفي أحسن الحالات تعبير عن وجهة نظر مبنية على اعتبارات ومعارف علمية وواقعية.
كون أن الناس في الولاية متعددو الآراء في كل شأن من شؤونهم العامة، لاختلاف مداركهم ورغباتهم ومواقعهم. وتعدد الآراء يعني تعدد الإرادات والاختيارات الممكنة حول الموضوع الواحد، ومن هنا ضرورة الاحتكام إلى الكتاب، يقول تعالى: (وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) {الجاثية 17/18}، ففي الكتاب توجد الحقيقة المتعالية، والرشد المتعالي والإرادة المتعالية والعدل المتعالي. يقول تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً * قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) {الإسراء 105/109}، غير أن الرأي ينفذ بالضرورة إلى العمل السياسي بالولاية من خلال تفسير وحي الله في الشؤون السياسية المتغيرة، فلا بد للولاية من أن تواجه الابتلاء التاريخي والمشكلات الجديدة التي تحدثها ابتلاءات الحياة المتجددة، وأن تحاول الجمع بين نماذج المتعالي الإلهي اللامتناهي، ونوازل النسبي التاريخي المتناهي، ومن خلال منهج في تأويل الرؤية الإسلامية تتجاوز به طبيعة العقبات الأبستمولوجية والواقعية التي تواجهها، بيد أن أي تأويل للوحي الإلهي، ليس في حقيقة الأمر، سوى رأي من الآراء ولكنه بالإجماع أي إجماع جمهور المجتمع، يكتسب ولاية وشرعية لا تعلو عليها حتى ولاية الحاكم نفسه، فتستوعب به عندئذٍ الولاية نوازل هذا الواقعة أو تلك، فهناك فكر الحاكم ومؤسسه الحكومة في تأويل مراد الله مع عدم منع كل تأويل آخر في أوساط المجتمع، بإقامة أشكال للرأي العام ورأي الجمهور واستفتاءه من خلال مفهوم الشورى أو ما يعادلها من أشكال الاستفتاء للمجتمع.
على هذا فإذا أجازت الولاية لنفسها أن تحدد ما هو حق وواجب وحرام بالنسبة للولاية السياسية، وفقاً لاجتهادها من الرؤية الإسلامية، فإنها لا تستطيع أن تمنع حقاً من دعوة الناس إلى احترام طبيعة الوجود السياسي الصحيح وقوانينه الذاتية، ذلك أن اجتهاد ولاية الولاية وولاية الحاكم فيها قضية مفتوحة، لا يمكن إخضاعها لتشريع مسبق، فالولاية تقوم وفقاً لمبدأ البيعة الجامعة لجمهرة المؤمنين، المرتكزة علي أناس مؤمنين ومتساوين في الكرامة، والعاملة في المجتمع البشري توحيداً من جهة، وتفريقاً من جهة أخرى، بحسب الابتلاءات التي تنفتح عليه في مجرى التاريخ.
ومن هنا يمكن تحديد ما يجب أن تكون عليه الولاية في الواقع العيني بصورة راشدة، فبينما حركة التاريخ وابتلاءاته تدفعها إلى التجدد بين الحضور والغياب بصورة مستمرة، فإن دلالة الخطاب القرآني هي الهادية والسبيل لتجاوز ابتلاءات التاريخ في طريق الرشد والسداد والوحدة.
وإذا كان من الممكن تحديد الحق، وبالتالي الواجب والحرام، بالنسبة إلى أفعال الولاية العامة لا من داخل المنطق الطبيعي والتاريخي لهذه الأفعال التاريخانية وحسب، وإنما من هدي الأمر الإلهي المتعالي، فإنه من الممكن أيضاً تحديد الحق، وبالتالي الواجب والحرام بالنسبة إلى الشؤون العامة التي تهتم الولاية السياسية. يقول تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ * رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) {آل عمران 7/9}، ووفقاً لهذا المنطق، فإنه يتبع التشريع للشؤون العامة ويؤسسها ويتجاوز بها متعددات المجتمع السياسية واختلافاتها وابتلاءاتها، ويساير التعقد المتزايد لمشكلاتها، ويتماشى والتغير المستمر في أوضاعها وظروفها.
وهكذا تظهر أهمية قيام الولاية على الإجماع المؤسس على دلالة خطاب ديني ما، ثم لا يحول الاختلاف الفقهي إلي اختلاف هوي ومصالح، توضع بموجبه ولاية الولاية السياسية في قبضة نخبة من نخب المجتمع دون سواها، وحسنات هذا الوضع تظهر في عدم نفي المشيئة الحرة والمساواة كصفتين أساسيتين لكل عضو في المجتمع بل تظهر على جميع أصعدة حياة الولاية. وهكذا تحتاج الولاية العامة دوماً إلى إعادة النظر في تفسيرها لاجتهادها السياسية، لكي تواكب تجدد الفقه لتلافي الأوضاع الاجتماعية المستدعية لهذا التجدد، ومن هذا كله يتبين أن الولاية العامة لا تتمتع كولاية بأي امتياز في وضع الاجتهاد السياسي، فالاجتهاد السياسي شأن دنيوي تاريخي وهو محل اجتهاد وفقه ونظر، وإرجاعه إلى إرادة الخالق، يجري بالضرورة عبر إرجاعه إلى إرادة الإنسان المعبرة عن قدرتهم المبدعة من خلال فقه الرؤية الإسلامية.
أما القانون الاجتماعي والمنطق العقلي الذي يحكم هكذا مقاربات في الحياة السياسية، فهو قانون المدافعة، والتي تأخذ صورة القانون السياسي الذي يحكم بفعالية في الحياة السياسة، كون أن سنة التدافع سنة أزلية محققة وفق تصور الإسلام لطبيعة علاقات المجتمع السياسي، فالتدافع السياسي سنة القوانين التاريخية والاجتماعية التي لا تستطيع مجريات الحياة السياسية الخروج عليها، فهي ذات طابع موضوعي وعلمي، لأن أهم ما يميز القانون العلمي عن بقية المعادلات والفروض هو الاطراد والتتابع وعدم التخلف. وبهذا المعنى، فإن التدافع السياسي قانون أزلي يتحلى بكل شروط الديمومة، بيد أنه إحدى السنن الإلهية، محكوم بمستوي أعلى من المشيئة في الرؤية الإسلامية هي مشيئة الله تعالى ومشيئة الإنسان، ذلك أن الذي يخلق تلك التحولات والتغيرات في الأصل، وعلى مستوى نظام الحياة السياسية، هي المشيئة الإلهية فهي التي تخلق مسارات التحولات والأحداث التاريخية، غير أن هذه المشيئة لا تتدخل في تثبيت فعل التغيير والتحول أو الإصلاح السياسي أو إجهاضه، إلا من خلال الفعل الإنساني نفسه، يقول تعالى: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) {محمد/4}، ويقول: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) {الرعد/11}، ثم إن هذا التغيير من الداخل ليس خصيصة منهجية إسلامية في التدافع السياسي وحسب، بل هو أيضاً فعل مدافعة لا تنقطع لسلبيات المحتوي الأخلاقي المادي، وهو بذلك فعل ممانعة وموافقة دائمة داخل النفس الإنسانية، وفي الجماعة لمواجهة محاولات الاختراق التي لابد من أن تتعرض لها النفس الإنسانية من الأهواء، وصنوف الإغراءات الفردية والجماعية المؤدية إلى تهافت المجتمع السياسي ،أو نهضته وفلاحه.
وإذا كان ذلك كذلك فإنه السنة أو القانون الذي توظفه الرؤية الإسلامية، لتفسير ظاهرة الابتلاء في العلاقات السياسية، الذي يأخذ في الخطاب الديني، صورة السنة والقانون الاجتماعي الذي يحكم بفعالية في المجتمع السياسي، مستوعباً ومتجاوزاً في آن لمفاهيم الصراع والقوة والتعاون والتوازن والنظام ونحو ذلك من نظريات ومفاهيم تحليلية في تفسير ظاهرة العلاقات السياسية، يقول تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) {الحج/40}. ويقول: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) {البقرة/251}، ويقول: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) {المؤمنون/96}. فالآيات تقرر أن التدافع قانون اجتماعي كوني عام يحكم الناس جميعاً على المستوى الفردي وعلى المستوى السياسي العام، لاسيما التدافع الذي يحدث بين مثال الفساد في الأرض وبين مثال الصلاح، وعلى هذا فلا مجال لقيام نظام أحادي سياسي يحكم الاجتماع البشري وفق نظام استبدادي فاسد، وإنما تقوم الحياة السياسية وفق المدافعة بين الحق والباطل حتى تكون الغلبة أخيراً للحق. يقول تعالى: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) {الإسراء/81}، ويقول: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) {محمد/4}. ولتبقى سنة المدافعة المتمثلة في ظهور علاقات أخرى بدوافع مختلفة في ميادين المجتمع السياسي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.