لم يعد الأسلوب أو الطريقة المعتادة فى أداء المنظمات الإدارية والخدمية لعملها ملائما للعصر الحالي، لذلك أصبحت تلك المنظمات ملزمة بالبحث عن كل ما يمكن أن يحقق أعلى مستويات الاداء أو الخدمة. وقد حظيت ما يسمى ب "إدارة الجودة الشاملة" بجانب كبير من هذه العناية إلى الحد الذى جعل المفكرين الإداريين يطلقون على هذا العصر "عصر الجودة والاتقان"، وذلك باعتبار أن الجودة هي أحدى الركائز الأساسية لنموذج الإدارة الجديدة باختلاف أنواعها وأحجامها. يجدر بالذكر هنا أن رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) دعا قبل قرون بعيدة الي إتقان العمل بقوله المشهور: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه". تعددت تعريفات وأراء الباحثين فى تعريف وتحديد مبادئ الجودة الشاملة شأنها شأن كثير من المفاهيم الإدارية الأخرى، بيد أن كثير من الآراء تجمع على ضرورة تحسين أنظمة العمل بصورة مستمرة من خلال وضع هدف دائم يتمثل فى تحسين أداء الخدمات وإدخال التغيير والتطوير بشكل مستمر في طرق إختبار الجودة، وكذلك بالتخلص من الإعتماد على الرقابة الشاملة بقصد الكشف عن الأخطاء لتحقيق الجودة، ومع ضرورة إشراك الأفراد في صنع جوهر ومنهج إدارة الجودة لأن هؤلاء الأفراد هم أساس عمل المنظمة اتخاذ القرارات. وكذلك اتخاذ القرارات على أساس الحقائق والمعلومات (وليس غيرهما) إذ أن التطبيق الفعلي لإدارة الجودة الشاملة تتمثل في المعلومات والحقائق الفعلية التى تتوافر للإدرات العليا في المؤسسات من مصادرها في كافة المستويات الإدارية. يوفر ذلك كله قاعدة معلوماتية مهمة تستطيع المؤسسة الرجوع إليها عند حاجتها لاتخاذ القرارات المبنية على حقائق وبيانات صحيحة وليس مجرد توقعات وأماني اساسها الآراء الشخصية ولا سيما في عصرنا الحالي الذى يتسم بالتغيرات السريعة والتحويلات المتلاحقة. إن نقطة إرتكاز قرار تطبيق الجودة الشاملة في المؤسسات يبنى دوما على قرار استراتيجي من الإدارة العليا ، وبالتركيز على الجودة فى رؤية ورسالة المؤسسة وتهيئة الأجواء داخل المنظمة، وخلق جو عمل جديد وثقافة جديدة للموظفين بفهم ومعرفة مبادئ إدارة الجودة الشاملة ومتطلبات تطبيقها، ومن ثم تقبل أساليب العمل الجديدة وذلك من خلال التحفيز المستمر، ومن خلال تصميم برامج تدريبية لكافة المستويات الإدارية حول الإلتزام بمبادئ الجودة الشاملة. وبما أن إدارة الجودة الشاملة تعتبر أسلوبا ومنهجا إداريا يهدف إلى ضمان الجودة في مخرجات المؤسسة وتحسينها سواء أن كانت سلعا أو خدمات، لذا فإن الإدارة الحديثة تضع الكادر البشرى على قمة اهتماماتها وتدمجها ضمن برامجها للتخطيط الاستراتيجي والعمل. لم تعد المفاهيم القديمة التي كانت تركز فقط على خفض تكلفة العنصر البشرى كأحد أنواع الاداة الناجحة مقبولة ، إذ أن المتطلبات العالمية الآن تتمحور حول بناء إداء العمل من خلال تنمية المهارات الفكرية واستثمارها، وذلك لاشتداد المنافسة في مجال النهوض بالعنصر البشري والمحافظة عليه لشح الموارد البشرية الأكثر كفاءة والتزمآ ومهارة، وأغرز جودة خصوصا مع ظهور الميزات التنافسية العالمية بجودة كواردها البشرية. فعلى المثال تفخر دولة كاليابان بكادرها البشرى وتنافس به في كل المجالات تقريبا. ويحتل الآن أسلوب واجراء تطبيق الجودة الشاملة مكانة كبيرة في قاموس الإدارة الامريكية إذ أنه أساسي في نجاح كثير من المنظمات. إن تطبيق مفهوم الجودة الشاملة من شأنه أن يحسن ويعزز مستوى جودة الخدمات والأداء الذى يجب أن يفي باحتياجات وتوقعات المنظمات الإدارية، غير أن الصعوبة في تطبيق هذا المفهوم تبدأ من عملية اقناع الموظفين العاملين بالمؤسسة المعينة بالعناصر الداعمة لمبادئ الجودة الشاملة وتفهمها وحسن تطبيقها، لأنهم يتحكمون بالفعل في الأداء، إذ يصعب تطبيق مبادئ الجودة الشاملة في أوساط بيئة تجهل مفهوم "الجودة الشاملة" والذي هو مفهوم ى يجد القبول التام لدى نطاق واسع من الموظفين في المنظمات الإدارية والخدمية، ربما لأن قبول مفهوم "الجودة الشاملة" يستتبع حتما تغيير أسلوب الإدارة التقليدية و /أو إدخال أساليب حديثة وتغيرات كثيرة في أساليب تنفيذ العمل، وهو الأمر الذى لا يمكن التكييف معه بسهولة عند بعض الموظفين ، بل يدفعهم للسعي نحو مقاومة التغيير في الإدارة الحديثة. وبالنظر إلي محاولة تطبيق مفهوم الجودة الشاملة في السودان، نجد من أهم مشكلاتنا الملحة تكمن في الموارد البشرية، رغما أن الكادر البشرى السودانى خاصة فى مجال الخدمة المدنية ومجال الخدمات خاصة كان يعتبر مثالا جيدا وقدوة صالحة، بدليل أنهم أسهموا في بناء مؤسسات ضخمة وناجحة في دول أخرى، غير أن رياح المتغيرات الحديثة في العالم المتقدم لم تهب على الكادر السوداني، بل ظل ذلك الكادر حبيسا لذكرى تاريخ مجد قديم دون أن يحاول تطوير نفسه ومقدراته. ولم يخلو الاهتمام الحديث (والمتأخر نسبيا) بمفاهيم الجودة الشاملة من الدوران في فلك الحديث عن معايير التوظيف وأعداد المعينين دون النظر الجاد في جودتهم وحتى دون تحديد لمعايير تلك الجودة، إضافة بالطبع إلى بقاء بعضا من الأساليب القديمة التي تعتمد أسلوب المحاباة والتمييز وافتقاد المهنية وروح المنافسة الحقيقية الشريفة. من الثابت أن الدول التي اصابت نجاحا كبيرا في كل المجالات (خلافا لما هو الحال عندنا) لا تقوم ببناء كوادرها عند مرحلة التعيين أو التوظيف، فالكادر البشرى كما هو معلوم أحد أغنى موارد الدول التي تتم تنميتها في مرحلة مبكرة، ومن خلال مراحل التعليم المختلفة ببرامج مكثفة في المعرفة والتربية الوطنية. كذلك تهتم تلك الدول بالقيادة والقياديين الإداريين منذ وقت باكر نظرا لأن القائد الإداري هو المحرك الأساسي لجميع العناصر الأخرى في الإدارة، والقيادة في جميع نظريات الإدارة هي المعيار الأهم في تخطيط وتنفيذ البرامج التي تستهدف تطبيق الجودة. يصح القول إذن بأن "الجودة تبدأ بالقيادة" والقيادة القوية هي أحد مزايا المنشآت الناجحة، والتي يحمل قادتها أفكارا عظيمة ورؤى واضحة لقيادة منشآتهم لتتبوأ مركزا مرموقا من خلال التوجيه المتواصل والتطوير المستمر لنظام قيادة فعال، والمحافظة عليه. يجب بالطبع عدم إغفال الجانب الإنساني للجودة حيث أن بلوغ الجودة لا يتم إلا بالمزج الحكيم بين الاحترام للمستخدمين ومراعاة مشاعرهم. إن سلوك القائد الإداري له عظيم التأثير (الإيجابي أو السلبي) على المرؤوسين، وربما يفوق تأثيره الإرشادات والنظم الموضوعة من قبل المؤسسة، فإن كان سلوك القائد إيجابيا وقائما على معايير أخلاقية ومهنية متينة فلا شك أن المرؤوسين سيعملون على تغيير سلوكهم في العمل بما يتوافق مع سلوك قيادتهم، وإذا كان العكس تفنن المرؤوسون فى إظهار ولائهم لقادتهم من خلال محاكاة القيادة، فالقائد الإداري الفعال ليس هو بالضرورة ذلك "القائد المحبوب" الذي يسعى بكل الطرق لإرضاء المرؤوسين، بل هو ذلك القائد الذي يعمل وبجد على تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة. وبالنسبة لتطبيق مفهوم الجودة الشاملة في المؤسسات المالية (خاصة القطاع المصرفي) يمكن القول بأنه قد طرأت على هذا القطاع في السنوات القليلة الماضية تحولات إيجابية كثيرة وسريعة قد تعزى في الغالب للترابط العالمي للقطاع المصرفي، والذي ألزم المصارف في جميع أنحاء العالم بتطبيق كثير من معايير الجودة في العمل، ومن أمثلة ذلك مقررات بازل الثلاث، معايير الخدمات المصرفية الإسلامية ، واتفاقية ال "سويفت" في المعاملات، وغرفة التجارة الدولية وغيرها من كثير من المعايير المتضمنة لأساليب المراجعة والافصاح عن القوائم المالية. وتقدمت عمليات "الجودة الشاملة" في الآونة الاخيرة لتشمل معايير واتفاقيات لضمان أخلاقيات المهنة بين المصارف سميت ب "وثيقة السلوك المصرفي"، مثلما هو حادث في دولة متسارعة النمو مثل دولة الإمارات العربية المتحدة، وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق لا يعتبر ملزما قانونيا إلا أنه يعتبر عرفا مصرفيا معتبرا، حيث يشمل الاتفاق على بنود تهتم بالشفافية في التعامل مع العملاء، واحترام السرية والخصوصية لحسابات العملاء وبيانتهم الشخصية، وكذلك الكيفية التسويقية في طرح الخدمات المصرفية لاستقطاب العملاء دون المساس بالمصارف الأخرى. ولم يغفل هذا الاتفاق حتى التنبيه لعدم حدوث تصرفات التي يمكن أن تنتهك العلاقات بين زملاء المهنة، وذلك حتى يمكن تهيئة المناخ لتقديم أفضل وأجود الخدمات المالية للمجتمع حيث يعرف، ومن قديم، أن مهنة العمل المصرفي هي أرقى قطاعات الخدمات. [email protected]