[email protected] (1) مع أنه لا تجري في عروقي نقطة دم عربية واحدة، حيث أنني أنحدر عرقياً وجهوياً من نوبة الشمال (وهم قوم لا يعرفون اللغة العربية إلا بعد انتظامهم في مدارس الحكومة، كما اشتهر عنهم تاريخياً أنهم قبلوا بالدخول في الاسلام بعد عنادٍ وعنت)، الا أن أحب الألقاب الى نفسي يظل دائما ذلكم اللقب الذي أسبغه عليّ الشريف الماركسي، نبي اليسار والمناضلين التتار ومفكر الدياسبورا السودانية، الدكتور حسن موسى، وهو لقب (الناطق الرسمي باسم البرجوازية الصغيرة العربسلامية). وهكذا فقد هانت النوبة وتضاءل شأنها عندي الى حد ما - بعد أن علقت شارة ذلك اللقب المنيع الرفيع على صدري - فلم اعد أبذل لشعبها وقضاياها ذات اهتمامي القديم! ولكن ذلك لم يمنعني من أن أقف متحسساً ومتوجساً أمام تداعيات الخبرين العجيبين المريبين الذين نشرتهما الصحف هذا الاسبوع بشأن الدكتور سلاف الدين صالح، رئيس مفوضية نزع السلاح، والتقارير الصحفية حول تجاوزات مالية وادارية مزعومة بالمفوضية، ثم حول مجريات حفل تكريم البلابل الذي نظمته جهات اعلامية وفنية. فضلاً عن الاعمدة الصحفية لكبار الكتاب في معرض التعليق على الخبرين. (2) فجأةً وبدون سابق انذار عرفت ان هناك محنة جديدة تواجه السودان. كتب الصحافي اللامع عبد الباقي الظافر في عموده 'تراسيم' منبهاً: (ارتفاع الصوت العرقي في أقصى شمال السودان بات ظاهرة. بل أن هناك باحثون نوبيون لا هم لهم الا كتابة اللغة النوبية وفصل الحضارة النوبية من تاريخنا كسودانيين)، ثم قدم بعض الشواهد التي تكشف النقاب من وجهة نظره عن تجليات ظاهرة الغرور العرقي عند القوم. وكتب حبيبنا الصحافي فيصل محمد صالح في عموده 'افق بعيد' محذراً: (التمترس وراء القبيلة ربما يؤكد الاتهامات بأكثر مما ينفيها). ثم أضاف: (سيف القبيلة لا يزال ضارباً في مجتمعاتنا، والحسابات السياسية قد تفضّل احيانا التغاضي عن الاجراءات وقفل الملفات لحسابات الولاء والتأييد، او خوف فقدان مساندة القبيلة). والقبيلة المعنية هنا هي أيضاً نوبة الشمال. رغم أن اللغة المستخدمة في مقالتي فيصل والظافر تبدو مزعجة ومثيرة للقلق بعض الشئ، ومن الذي لا يقلق لمثل هكذا ظواهر ومحاذير في بلد يكاد ينفجر من كثرة التوترات القبلية والعرقية، الا أنه في ذات الوقت إنتابتني رغبة عارمة في الاطاحة بوسام "الناطق الرسمي باسم البرجوازية الصغيرة العربسلامية"، والتخلص منه على الفور، ثم العودة الى (القبيلة النوبية) حيث أصلي وفصلي، والعود أحمد. كما أنني شعرت بشئ من الفخر أيضاً، كون أنني اكتشفت على حين غرة حقيقة انتمائي الى قبيلة ذات صولة، تهدد الحكومة، وتوجه الانذارات الى القصر الجمهوري لو أن أحداً داس لمنسوبيها على طرف كما رأينا، ويخشى بأسها الناس، ويحذر كبار الكتاب الصحافيون من صحوتها وارتفاع صوتها، ويصفون ذلك بأنه (ظاهرة). (3) ولكن من قال أن قبيلة النوبة تقف وراء الدكتور سلاف الدين صالح في الأزمة الحالية التي تناولتها الصحافة؟ شبكة المنظمات النوبية، صاحبة البيان والمؤتمر الصحفي الوعيدي التهديدي، شديد اللهجة، الذي شق طريقه الى الصفحات الاولى فأثار كل هذا الغبار، عبارة عن منظمة مدنية محدودة النطاق ولدت وترعرعت في حجر حزب المؤتمر الوطني. وهي تجمع بين صفوفها نخبة من أنصار النظام والداعمين لمشروعاته. فكيف يكون صدور بيان من خلال مؤتمر صحفي من منظمة كهذه مؤشراً لأزمة عرقية قبلية شاملة تطال نوبة الشمال عن بكرة أبيهم؟! الدكتور سلاف الدين، الذي تولي مناصب تنفيذية قيادية عديدة خلال ربع قرن من حكم العصبة المنقذة، يمثل لوحة التدريب على اطلاق النار والهدف الأول لجموع هادرة من مناضلي الشبكة الدولية. جرب – أعزك الله – أن تكتب اسم سلاف الدين صالح في اى موقع من المواقع الاسفيرية الذائعة، وعينك ما تشوف الا النور! لا بد انك ستدهش لحشود مناضلي الكيبورد من أحبابي النوبيين الذين سيتكالبون، المُقعد فوق ظهر الأعمى، للمشاركة في طقوس رمي الجمرات. وقد يدهشك اكثر ان تعلم أن منظمة نوبية شهيرة اسمها "جبهة تحرير كوش" حاكمت أحد اعضاءها ذات يوم محاكمة علنية، نشرت حيثياتها في المواقع الاليكترونية، حيث وجهت الى الرجل تهمة الخيانة العظمي. وكان الدليل الوحيد، الذي تم بموجبه فصل المتهم، هو أن شاهداً عدلاً قد شهد بأنه رأى المتهم (محمد داؤد) بالعين المجردة وهو يجالس الدكتور سلاف الدين في احدى المقاهي. وأذكر أنني أوردت ضمن إحدى مقالاتي قبل عدة سنوات اسم الدكتور سلاف الدين، مشيراً الى وشيجة القربى الاسرية التي تربطني به، فتعلقت واستمسكت بعروة تلك الاشارة جموع من المناضلين النوبيين. وكانوا كلما نقموا علىّ بعد ذلك، لقلة رصيدي في بنك النضال والاشتباه في ممالأتي للإنقاذ، سارعوا ليعايروني بقرابتي له، ثم يعزّون انفسهم قائلين: (ماذا تتوقعون منه؟ ألم يعترف بعظمة لسانه بأنه قريب سلاف الدين صالح)؟ (4) ثم أن شبكة المنظمات النوبية هذه لا يجوز لها ان تدعى تمثيل النوبة، وليس هناك ما يبرر تدافع كبار الكتاب الصحافيين لشراء مزاعمها، فيتبنونها ثم يشيدون على أكتافها صروحاً من الافتراضات لا تحقق الحقيقة ولا تواقع الواقع. أنا شخصياً لا امنحها هذا الشرف. لا لأنها هيئة مدنية تابعة لحزب المؤتمر الوطني، فليس في ذلك ما يعيب. ولكن ملاحظتي الأساسية، بعد ان وقفت على وقائع مؤتمرها الصحفي الكارثة في أمر سلاف الدين، الذي اثار كل هذه الزوابع، هي أن أداءها العام لا يدل على حكمة ولا يبشر برشاد. وأين الحكمة والرشاد في قول مسئولي المنظمة خلال مؤتمرهم الصحفي أن سلاف الدين حرص على عدم فشل المشروع (الى الحد الذي إضطره للمغامرة بنفسه). أما كيفية المغامرة بالنفس، فهي كما اوردت (الرأى العام) على لسان القوم: (اضطر سلاف الدين لتحرير شيكات مصرفية على حسابه الشخصي للحيلولة دون فشل مشروعات تخص المفوضية من بينها مؤتمر لندن الخاص بالدمج واعادة التسريح). قريبي سلاف الدين إذن من الأثرياء. بل أنه بلغ من الثراء حداً يمكنه من أن يخرج دفتر شيكاته الخاص فيحرر أوامر الدفع من حر ماله، ثم يمول من حسابه المصرفي الشخصي بعض النشاطات الرسمية للمفوضية، بما في ذلك مؤتمرات تعقد بلندن. إذا كانت هذه مرافعة الدفاع، فكيف إذن تكون مرافعة الإدعاء؟ (5) ولكن الطامة الكبرى في تقديري تكمن في قول الامين العام لشبكة المنظمات النوبية خلال مؤتمره الصحفي: (بعد انتهاء المشكلة ورد الاعتبار للدكتور سلاف الدين سنطلب منه الاستقالة والتوجه الى حلفا، لأن هؤلاء لا يستحقون أى خدمة). استعصت على قدراتي معرفة اولئك الذين لا يستحقون الخدمة على وجه التحديد، لأن قائمة الاحتمالات مفتوحة، تبدأ من المواطنين العاديين المعنيين بجهود نزع السلاح والدمج واعادة التسريح، وتنتهي بقادة نظام الانقاذ نفسه. من جهتي أنصح الدكتور سلاف الدين بأن يستهدي بالله، وألا يصيخ سمعاً لقومه هؤلاء، وألا يلق بالاً لما يقولون. وهل هناك عاقل يعطي أذنه لمن يطلب منه ان يستقيل وان يهجر الخرطوم ويذهب الى وادي حلفا ليقضي فيها بقية حياته؟ والخرطوم يُقال في فضلها أنها (محل الرئيس بنوم والطيارة بتقوم)! الدكتور سلاف الدين رجل شريف وعفيف. أعلم يقيناً أن يده لم تمتد الى مالٍ عام الا لتصونه، وأنه جعل من كل منصب عام تقلده ذخراً لآخرته. بلاش يا قريبي من "شبكة المنظمات النوبية" هذه. بل ومن كل شبكات الانقاذ قولاً واحداً. صدقني الانقاذ ليس وراءها غير (الشبك). وليكن شعارك: " اللي شبكنا يخلصنا"! (6) ولقد أدهشني بعض الشئ أن حبيبنا الكاتب الصحافي الاستاذ عبد الباقي الظافر لم يكتف بالتعرض لقريبي سلاف الدين، والتوسع في تفسير الخطاب المضطرب، المفتقر للاصول، لشبكة المنظمات النوبية، بحيث اتخذ منه مدخلاً للتعريض بالأرومة النوبية بأسرها. بل أنه مضى قدماً فانتاش بقلمه رجل الاعمال أسامة داؤد عبد اللطيف (هل علمت - أعزك الله - أن رجل الأعمال أسامة داؤد يمتلك 20% من أسهم دار 'الرأى العام'؟ وأسامة ابن عمتي. وأن رجل الاعمال الآخر سعود البرير يمتلك 60% من أسهم الدار، وهو إبن خالة عادل الباز. أنا وعادل إذن، في عزّ من أمرنا. وبحكم انتماءاتنا الاسرية فإننا نحوم حول 80% من أسهم 'الرأى العام'. فليحدثن الحاضر الغائب، ولا يقولن لنا أحد من بعد يومنا هذا: تلت التلاتة كام). ثم تعداه الى ابن عمي رجل الاعمال وجدي ميرغني محجوب فنال منه. وأخيراً عرج الى مضارب قريباتي (البلابل)، فأثار الغبار حول الاحتفال الذي اقيم لتكريمهن في بحر هذا الاسبوع. وكل ذلك في غضون حملته المفاجئة ضد العصبية القبلية المفترضة. وقد خيل الىّ من كثرة ما قرأت من عدوان على الأرومة النوبية في تمامها، من خلال سطور الاستاذ فيصل محمد صالح، ثم كثرة ما رأيت من أهلي وأقربائي مجندلين في سطور الاستاذ الظافر، أن (اوكازيون التعرض للنوبيين والافتئات عليهم بالحق وبالباطل) قد جرى افتتاحه في صحافة الخرطوم. أبدى الظافر استغرابه للضخامة النسبية في قيمة الهدايا المالية والعينية التي تلقتها البلابل اثناء حفل التكريم، تحديداً من رجلي الأعمال السيدين اسامة داؤد ووجدي ميرغني الذين قال عنهما انهما (تبرعا بالغالي والنفيس). ثم كتب: (ولكن فحص الجينات الوراثية يأتيك بنتائج مبهرة. البلابل من حلفا وكذلك الرجلان). وأنا لا أعرف ما هو تحديداً (الغالي) و(النفيس) الذي رآه الظافر في سيارة كورية صغيرة من نوع (كيا). لا سيما بالنظر الى أن إحدي الشركات الخاصة الاخري، التي تملك زمامها شخصيات لا علاقة لها بالنوبة والنوبيين من قريب او بعيد، كانت قد قدمت لكل بلبلة هدية عبارة عن قطعة أرض درجة اولي في مدينة الخرطوم. (7) ولكن هذا كله هيّن، الى جانب المقارنة التي أجراها صاحبنا بين حالة احتفال مدروس ومنظم اضطلعت به مجموعة بعينها واستقطبت له الدعم من جهات اخرى، أخذت على عاتقها مهمة تكريم البلابل، وحالة الممثلة السودانية فايزة عمسيب. استنكر الظافر تبرع رجلي الاعمال (الذين فحص جيناتهما واتضح له انهما نوبيان) لتكريم البلابل، وتجاهلهما المزعوم للمثلة فايزة عمسيب التي - بحسب قوله - تمر بظروف تستوجب المساعدة. كتب الظافر: (اسامة داؤد لم يتبرع لفائزة عمسيب التي تحتاج الى منزل تسكن فيه. لم يسمع اسامة داؤد بحكاية فايزة لأن حظها جعلها تبصر النور في أواسط السودان). الفرضية التي بناها المقال وهي ان اسامة آثر أن يبذل امواله وهداياه، للبلابل بحكم انهن نوبيات، ولكنه تجاهل الممثلة فائزة عميسب، او لم يسمع بها اصلاً او بقضيتها بسبب أنها تنتمي الى منطقة وقبيلة اخرى في السودان، تنطوي على قدر هائل من الشطط، يتجاوز أسوار المعقول. بل واكاد اجزم ان ترويج هذا النوع من الطروحات هو الذي يعمق روح القبلية والعشائرية ويضعف التوافق الاجتماعي في السودان، وليس العكس. وأمثال الظافر من صناع الرأى العام مدخرون لتنمية الشعور العام القومي وتغذيته، لا ترويع الناس باتهامات العنصرية والانحيازات القبلية. ربما لم يسمع اسامة داؤد ووجدي ميرغني بحاجة فائزة عمسيب للمساعدة. بل ربما صح القول أنهما ربما لم يسمعا بفائزة عمسيب نفسها كممثلة. لا بسبب كونها ليست نوبية. الأمر أهون من ذلك بكثير، وهو ان الرجلين لم تكن لهما اهتمامات كافية بحركة المسرح السوداني. ومثلهما قطاعات واسعة من السودانيين. والمسرح في السودان ما يزال في طور النمو. كون أن أسامة ووجدي لم يسمعا عن الممثلة فائزة لا ينبغي أن يضيرها. فالاستاذ عبد الباقي الظافر نفسه موجود، يرفل تحت شمس الخرطوم. البركة كلها فيك يا حبيبنا. أهيّن أنت ام ليّن؟ ومثلما تجمع بعض الناس من اهل الصحافة والاعلام والاعمال وتواضعوا على تكريم البلابل، ثم سعوا بين حلقات الخرطوم ودوائرها ومجامعها لاستقطاب العون وتوفير الدعم لمشروعهم - الذي وجد تجاوباً منقطع النظير كما رأينا من ضخامة الحشود التي أمت ساحة التكريم - يستطيع حبيبنا الظافر نفسه ان يتقدم في ذات الطريق فيمسك بيده زمام المبادرة، ويوظف قلمه ومساحته الراتبة وعلاقاته الواسعة لتنظيم للدعوة لتكريم الممثلة فائزة عمسيب، فيوفر لها الأموال والسيارات وقطع الاراضي والهواتف النقالة والاوسمة والنياشين. وسيكون يومئذٍ من المحسنين. تماماً مثلما فعل الاعلاميون الآخرون الذين تصدوا لمهمة تكريم البلابل. سؤال أخير لحبيبنا الظافر: لماذا تقول أن حظ فائزة عمسيب العاثر جعلها ترى النور في أواسط السودان وليس في مناطق النوبة الشمالية؟ ألا يوجد رجال اعمال اثرياء في اواسط السودان؟! نقلاً عن صحيفة (الرأى العام)