رئيس مجلس السيادة يؤكد عمق العلاقات السودانية المصرية    رونالدو: أنا سعودي وأحب وجودي هنا    وزير الخارجية المصري يصل بورتسودان    محمد حامد جمعة نوار يكتب: نواطير    "فينيسيوس جونيور خط أحمر".. ريال مدريد يُحذر تشابي ألونسو    الهلال يدشن انطلاقته المؤجلة في الدوري الرواندي أمام أي سي كيغالي    كُتّاب في "الشارقة للكتاب": الطيب صالح يحتاج إلى قراءة جديدة    مستشار رئيس الوزراء السوداني يفجّر المفاجأة الكبرى    عثمان ميرغني يكتب: إيقاف الحرب.. الآن..    مان سيتي يجتاز ليفربول    التحرير الشنداوي يواصل إعداده المكثف للموسم الجديد    دار العوضة والكفاح يتعادلان سلبيا في دوري الاولي بارقو    كلهم حلا و أبولولو..!!    السودان لا يركع .. والعدالة قادمة    شاهد.. إبراهيم الميرغني ينشر صورة لزوجته تسابيح خاطر من زيارتها للفاشر ويتغزل فيها:(إمرأة قوية وصادقة ومصادمة ولوحدها هزمت كل جيوشهم)    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    شاهد بالفيديو.. لدى لقاء جمعهما بالجنود.. "مناوي" يلقب ياسر العطا بزعيم "البلابسة" والأخير يرد على اللقب بهتاف: (بل بس)    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هواجس ساخرة (17): صحيفة (ألوان) وحكاية "العميل المزدوج" .. بقلم: محمد بشير حامد
نشر في سودانيل يوم 12 - 04 - 2014

أثار البرنامج التلفزيونى لحسين خوجلى فى قناته الفضائية الكثير من ردود الفعل استهجنت فى معظمها ما اعتبرته تكريسا لمشروع الإنقاذ الشمولي وامتداداً لاسلوب الاسفاف والمهاترات الذى اتبعته صحيفة (ألوان) 2بان فترة الديمقراطية الثالثة. وفى المقابل ترواح رد الفعل الايجابي بين الاشادة بالدور "الريادى" للبرنامج فى " طرح قضايا الجماهير" والتبرير على استحياء، رغم الاعتراف بالتاريخ المعيب لصاحبه، أن للبرنامج جوانب ايجابية فى نقد بعض ممارسات النظام. وفى تقديرى أن هنالك ثلاثة خيارات فى التعامل مع ممارسات التجهيل والادعاء الأجوف وسؤ المقصد فى خطاب الاسلامويين: التجاهل التام لها بحسبان أن القضية برمتها حُمِلت اكثر مما يستحق الشخص المعنى؛ او رد الصاع صاعين (كما فى قصيدة "السيرة الذاتية لمسيلمة الفاتية " للراحل سيد احمد الحاردلو)؛ او الضحك عليها والسخرية من خطل قولهم وتناقضاته. والأخير كان خيارى عندما تصديت فى ثمانيات القرن الماضى (كما فى المقال الساخر أدناه) للرد على اتهامات صحيفة (ألوان) لى بالشيوعية والعمالة للمخابرات الأمريكية والانخراط فى "الطابور الخامس" للحركة الشعبية. ولعل الذين لم يعايشوا تلك الحقبة أو الذين نسوا أو تناسوا ممارسات 2علام الجبهة الأسلامية حينذاك لا يدركون أننا اذا لم نعِى عبر الماضى فقد يُعيد التاريخ نفسه مستقبلا.
العميل المزدوج (On Being a Double Agent)
نًشر بالانجليزية فى صحيفة (سودان تايمز) وبالعربية فى صحيفة (الأيام) بتاريخ 4/8/1988
كان الوقت قرابة الثالثة صباحا ً عندما صحوت مرتاعا ً على رنين جرس التلفون المتواصل. ولعل مصدر إنزعاجى أن تلفون منزلى قد همدت حرارته منذ سنوات وقد تأكدت بنفسى أن الروح قد فارقته. فلا أحد يستطيع إذن أن يلومنى إن توهمت لفترة بأننى أحلم. نظرت حولى وأنا أدعك عينييّ وتيقنت أن ما يحدث هو واقع حقيقى. فالتلفون المنزوع الأسلاك يرن فعلا ً وبإصرار غريب. رفعت السماعة وجاءنى صوت عاملة الهاتف يسأل إن كنت على إستعداد لتلقى محادثة دولية على أن أتعهد بدفع قيمتها محليا ً. زاد إندهاشى فالأمر لم يعد يخص شأن هاتفى الذى أصبح يعمل لاسلكيا ً بل شمل أيضا ً هذا التطور المفاجئ فى الخدمات الهاتفية بحيث أصبحنا نتعامل بين ليلة وضحاها بنظام الدفع المحلى (collect call) للمحادثات الدولية كما يحدث فى كل أنحاء العالم المتحضر!
وحقيقة لم يتوصل إدراكى القاصر للسر وراء هذه الطفرة التقنية، إلا أننى خمنت أن حكومة الوفاق قد بدأت فعلا فى تنفيذ البرنامج الرباعى للإنقاذ والإصلاح والتنمية منذ ليلة البارحة. وبعد إنتظار قليل قمت خلاله بعملية حسابية سريعة لتقدير قيمة المحادثة المتوقعة وما يعادلها فى سوق العملة "الأسود" أخبرت عاملة الهاتف إننى على استعداد لتلقى المحادثة. مضى بعض الوقت ثم سمعت صوتا ً يقول: "هالو! اننى أتحدث من تلفونى السرى فهل خطك مؤمن؟"
قلت: "ان تلفونى يعمل لاسلكيا ً ولا أعتقد أن هناك ضمانا ً للأمان أكثر من ذلك. ولكن قل من أنت؟"
فأجاب: "أنا ميشا".
وبدأ لى صوتا ً مألوفا ً ولكنى لم أتذكر من يكون وشعرت بالحرج فى أن أساله عن ذلك. ولكنه أراحنى من الإحراج عندما سألنى بلهجة حذرة وكأنه يريد أن يتأكد من أننى الشخص المقصود: "هل هذا أنت يا محمدوف بشيروفتش حامديترى؟"
ألجمت الدهشة لسانى فقد تذكرت حينها أن "ميشا" هو اسم التدليل لمخائيل سيرجييش جورباتشوف. لم أعرف ماذا أقول فقد تملكنى إحساس غريب من التوجس والرهبة، فماذا ترى يريد منى السكرتير العام للحزب الشيوعى السوفيتى؟
وجدت نفسى أردد كالأبله: "ميشا؟ ميشا؟ أأنت مخائيل جورباتشوف؟"
قال بضحكة جافة: "طبعا، ومن كنت تتوقع؟ رونالد ريجان؟"
أجبت وأنا أحاول أن أطمئن نفسى أن السؤال والضحكة الجافة التى صاحبته لا ينطوى على مغزى آخر أكثر من المزاح الثقيل: "أبدا ً، أبدا ً ولكن لم يحدث أن تشرفت بالتحدث معك عبر الهاتف من قبل".
قال جورباتشوف: "أسمع يا محدوف بشيرفيتش أنا أتصل بك لأمر هام وعاجل للغاية، فقد اطلعت لتوى على تقرير كنت قد طلبت جهاز مخابراتنا (الكى.جى. بى) أن تعده عنك بعد أن قرأت المقال المنشور بصحيفة (ألوان) العدد ۳۲۳ الصادر الخميس ۳۰ ذو العقدة ۱4۰۸ هجرية".
لم اصدق أذنيىّ فقد كان ما قاله جورباتشوف محيرا ً ومربكا ً وخطيرا ً. فما الذى يجعل الزعيم السوفيتى يقرأ أحدى صحف الجبهة القومية الاسلامية؟ وقبل أن أفيق من الدوامة التى داهمتنى تابع جورباتشوف حديثه قائلا ً: "إن المقال الذى أعنيه يتحدث عن (التحالف المنكود) بين الشيوعيين واليسار الأمريكى الذى يمثله أشخاص معروفين ذكر اسمك ضمنهم. وهذا التحالف كما تقول الصحيفة يعمل لخدمة مصالح (الغرب الصليبى) و(الشرق الملحد) و(الصهيونية العالمية). ثم أن المقال يصفك بانك (أحد أقطاب جمعية سى.آى.ايه. الخيرية)".
ولا يمكن لأحد أن يتصور حالتى فى تلك اللحظة والمشاعر المتضاربة التى أعتملت فى داخلى. فمن ناحية تملكتنى رغبة جامحة فى الضحك فمجرد التفكير فى أن مخائيل جورباتشوف يقرأ صحيفة (ألوان) كان كفيلا ً بأن يقتلنى ضحكا ً. ومن ناحية أخرى كان نفس الأمر كفيلا ً بدق الاسفين الأخير فى نعشى. ولم أجد ما أقوله غير أن أقر بحقيقة أننى لم أقرأ المقال المذكور.
سألنى جورباتشوف بلهجة لا تخلو من الحدة: "هل هذه محاولة منك لإنكار ما ورد فى المقال؟"
أجبت بسرعة: "كلا يا ميشا وأقسم بشرفى الماركسى أننى لم أتشرف بمطالعة المقال الذى تعنى. ثم أننى اقرأ عادة صحافة القمامة مثل (لومند) و(القارديان) و(الواشنطون بوست) وشبيهاتها فى الصحافة المحلية".
وعندما لم يعلق جورباتشوف تابعت حديثى قائلا ً: "هذ بالاضافة الى ان الحصول على صحيفة (ألوان) كما تعلم لا يقل مشقة عن الحصول على قطعة خبز أو جالون بنزين. فأعداد (ألوان) تنفذ قبل أن تخرج من المطبعة تماما كما يختفى الرغيف قبل أن يخرج من الفرن والماء قبل أن يخرج من الماسورة. ولكن قل لى يا ميشا كيف تتحصل أنت على الصحيفة؟"
أجابنى وأكاد أحس بنبرة الفخر فى صوته: "ان كل عدد من (ألوان) يكون دائما ً على مكتبى قبل أن تذهب الجريدة للمطبعة. اننى ابدأ يومى بقراءته قبل (البرافدا) و(إزفستيا). لقد تطورت الصحافة عندكم ممثلة فى (ألوان) لمستوى رفيع شكلا ً ومضمونا ً. والأمر حقيقة رائع ومحير فى نفس الوقت. فأخبرنى يا محمدوف بشيروفيتش كيف تمكنتم من التقدم والإزدهار فى هذا المجال فى حين فشلتم فشلا ً مزريا ً فى كافة المجالات الآخرى؟".
سجلت على الفور ملاحظة فى ذهنى بأن أقوم بتسديد إشتراك سنوى لصحيفة (ألوان) فى الصباح الباكر. وقبل أن أجد الوقت لأفكر فى إجابة مقنعة لسؤال جورباتشوف فوجئت بسؤال آخر جعل الرجفة تسرى فى أوصالى فقد سألنى: "بخصوص هذا المقال فاننا نريد أن نعرف على وجه التحديد لماذا ربطت (ألوان) بينك وبين ما يسمى اليسار الأمريكى؟"
شعرت بالعرق يتصبب من وجهى وبدأ الخوف يعتصرنى: ترى هل انكشف أمرى؟ ولكن بذكائى المعهود أسعفنى الخاطر بأن أستغل إعجاب جورباتشوف الواضح بصحيفة (ألوان) لابعد أى شبهة حولى. فقلت وأنا أتصنع الابتسام: "الحقيقة انه مما يثلج الصدر أن صحيفة مثل (ألوان) فد صنفتنى باليسارية الأمريكية فهذا من شأنه أن يساعد فى ايجاد التغطية اللازمة والتمويه الضرورى لمهمتى الحقيقية ومن يدرى فقد يكون المقال قد كُتب بايعاز غير مقصود من جانبى".
وبدت إجابتى مقنعة على الأقل فى تقديرى. لكن لم أكن أعرف ما يدور فى ذهن جورباتشوف الذى بادرنى بقوله: "إن هناك بعض الأشياء الواردة فى المقال والتى لم نتمكن من استيعاب معناها تماما ً. فمن هو اليسار الأمريكى على وجه التحديد؟"
أجبت بسرعة: "أنه الإسم الحركى لرونالد ريجان".
قال: "لقد لاحظنا ان الاسماء التى ذكرتها (ألوان) كممثليين لهذا اليسار الأمريكى تضم البعض ممن يحملون اسم "بشيرفيتش" مثلك فما هو تفسيرك لهذا التطابق الغريب بين (البشيروفتشية) و(اليسارية الأمريكية)؟"
أجبته: "ان الأمر لا يحتاج حقيقة لتفسير، فاسم (بشيروفيتش) كما تعلم (شائع) عندنا ولهذا فإن من يحمله يكون مؤهلا تلقائيا ً لاحتضان (الشيوعية) أو اليسارية الأمريكية المتحالفة مع الشيوعية، أو على أسوأ الفروض اعتناق العلمانية".
وسألنى جورباتشوف مستغربا ً: "وما دخل العلمانية بذلك؟"
فأجبته: "على حسب التحليلات العلمية والموضوعية لصحيفة مثل (ألوان) لم يكن لى شرف مطالعتها بإنتظام فان العلمانية هى الوجه الآخر للشيوعية فلا يمكن لشخص أن يتطلع للعلمانية قبل أن يكون شيوعيا ً فى المقام الأول ومثل هذا التحليل المنطقى لا يحتمل تأويلا ً آخرا أو رأيا مخالفا. فالحقائق الأًصولية لا تقبل الجدل العلمانى البيزنطى".
سألنى: "وماذا عن جمعية (سى.آى.ايه) الخيرية؟"
قلت وأنا أختار كلماتى بجذر: "اإن هذا الموضوع شائك للغاية ويتعلق بنادى (للأعضاء فقط) من صفوة المستثمرين فى (البنوك الفيصلية) والذين يضاربون فى الحبوب الزراعية والعملة الأجنبية ومن المعروف أنهم ينتمون (لدار مال عالمية) مقرها فى جنيف ومسجلة فى جزر الباهاما وتتعامل بالمضاربة فى أسواق المال العالمية ومن المؤكد أنها سميت بجمعية (السى. آى. ايه) الخيرية لأعمالها الرابحة فى أمريكا اللاتينية حيث يقومون بخلط الكوكايين بالدقيق والمبيدات الزراعية وما شابه ذلك".
قال جورباتشوف وكأن المعلومات التى ذكرتها معروفة عنده سلفا ً: "دعنا نعود لموضوع المقال فقد قمنا كما تعلم بتجنيدك فى الماضى بعد أن أطنبت (ألوان) فى وصفك بالشيوعية والعمالة وأغدقت عليك خلال الفترة الانتقالية لقب (الوزير الأحمر). فكيف تفسر إذن إتهام الصحيفة لك الآن باعتناق اليسارية الأمريكية؟ وكيف يستقيم هذا مع إصرارهم السابق على 2عتناقك الشيوعية؟"
ولا أخفى اننى حرت فى كيفية مواجهة تلك الدفعة من الأسئلة التى أطلقها تجاهى ولعنت فى سرى اليوم الذى قررت فيه التعاون مع الروس فلم أكن أعرف أن لهم خاصية التشبث العنيد بأمور ليس من داع لتعقيدها. ولكن كان لا بد من الإجابة فقلت وأنا أضع يدى على قلبى: "لا أعتقد أن هناك تناقض فيما ذكرته (ألوان) يا ميشا فقد أكدت الصحيفة نفسها ان اليسار الأمريكى متحالف مع الشيوعيين ولا غرابة فى ذلك على الاطلاق فقد توصلتم يا ميشا مع رونالد ريجان فى قمة موسكو الأخيرة لإتفاقية الحد من الأسلحة النووية".
وبدت لى إجابتى مقنعة وقاطعة وخطر فى ذهنى أنه اذا كان الكبار يعملونها فلماذا تُحٙرم على الصغار. لم أقل هذا بالطبع لجورباتشوف ولكنى إنتهزت فرصة الصمت الذى خيم عليه وتابعت قائلا ً: "ثم ان اصحاب (ألوان) أناس خيرون ولعلهم أرادوا بتصنيفهم الأخير أن يفتحوا أمامى أبواب الاسترزاق غربا ً (بالدولار) بعد أن فتحوه لى شرقا ً (بالروبل) وهو بلا شك جهد مقدر منهم وخصوصا ً ان (روبلكم) كما تعلم با ميشا يمر متقشفا بمرحلة (قلاسنوست) الإنفتاحية".
وجاءنى صوت جورباتشوف وهو يسأل: "أتظن حقيقة يا محمدوف بشيروفيتش أنهم أناس خيرون؟" تعجبت لسؤاله ولم أستطع أن أحدد من نبرة صوته 2ن كان يشوبها نوع من السخرية أم باتت تراوده تطلعات لاستكشاف مزايا اليسارية الأمريكية هو الآخر! ولكنى أجبته بحماس: "اننى لا أشك اطلاقا ً فى خيرتهم فقد تصدوا لحمل هموم البلاد الروحية منها والمادية ولو اتخذت الجماعات الأخرى ذات المنحى لوجدنا الحلول الناجعة لكل مشاكلنا. فالمعاناة المعيشية ستنتهى لو أقتنعنا انه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان. والعطالة ستختفى لو أصبحنا كلنا عملاء. والحرب المستعرة فى الجنوب سيخمد أوارها لو اقتنع قادة التمرد انه لا تفضيل لشمالى على جنوبى الا بالدرجة المطلوبة من المواطنة. انهم حقيقة هبة السماء للمستضعفين على الأرض. فأحدهم قد جاءنا بحل عبقرى لمشكلة السكن يتمثل فى بناء قصر فى منطقة السكن العشوائى. والآن ونحن نعيش فترة الوفاق الوطنى فاننا بلا شك نرى الظلام فى نهاية النفق. فحكومة الوفاق قد شمرت عن ساعد الجد لتنفيذ سياسة العقد الاجتماعى لتوفير المساواة الاجبارية".
سألنى جورباتشوف بتعجب: "وما هى المساواة الاجبارية؟"
وأجبته: "انها المصطلح السودانى المقابل لسياسة (البريسترويكا) لاعاة البناء التى تبشرون بها يا ميشا، إلا أننا نعنى بها بناء المساواة الإجبارية للتمتع بالحياة. فنحن مثلا نتلذذ بشرب ماء الطين معا ً ونستمتع بانقطاع التيار الكهربائى فى مساواة وفاقية رائعة ونقف نتسامر فى صفوف الخبز والبنزين طوال الليل. اننا باختصار نعيش مجتمع (الوفرة فى الندرة)".
ولم يتحدث جورباتشوف لفترة طويلة واكاد أجزم أن الذى شغل ذهنه فى تلك اللحظات هو أنه كان يسائل نفسه اذا كان كارل ماركس فد تنبه وكتب شيئا عن نظرية (العقد الاجتماعى لتوفير المساواة فى المعاناة الإجبارية). وتوقعت أن يمطرنى بوابل من الاسئلة عن النظرية. ولعنت خمولى المعهود الذى حال دون قراءتى للكثير مما كتب عن ميثاق السودان للجبهة الاسلامية والعقد الاجتماعى وميثاق الوفاق وهلمجرا.
ولكن جورباتشوف فأجأنى بقوله: "ان كل هذه المعلومات متوفرة لدينا وما أريد أن أصل اليه هو الآتى: اذا أخذنا فى الاعتبار كل ما قلته ومع الحقائق الواردة فى مقال (ألوان) فان ذلك يقودنا الى سؤال مهم للغاية ونريد أن تجيب عليه بكل صراحة". سكت جوباتشوف لحظة ثم القى بقنبلته سائلا ً: "هل يعنى كل هذا يا محمدوف بشيرفيتش أنك تنوى مزاولة العمالة المزدوجة؟"
لم يكن السؤال مفاجئا ً فقط بل كان مأزقا ً حقيقيا ً وأدركت على الفور ان الروسى الداهية كان يعرف كل شئ عن تحركاتى الخفية واتصالاتى المريبة. اسقط فى يدى ولم يعد أمامى مجالا للإنكار ولكنى قررت فى ذات الوقت ان هذا المأزق القاتل لن يدفعنى للإنهيار فلعل جورباتشوف يمتحن مدى صلابتى ومن يدرى فقد تمكننى حصافتى من الخروج من تلك المحنة بأقل الخسائر. وتذكرت ما قرأته فى كتب الجاسوسية بانه يتوجب دائما الإجابة على السؤال المحرج بسؤال آخر.
فقلت فى حركة مراوغة يحسدنى عليها (مارادونا): "وهل تريدنى يا ميشا أن ألعب دور العميل المزدوج؟"
وحبست أنفاسى وأنا فى انتظار قرار جورباتشوف إلى أن قال بعد فترة خلتها دهرا ً: "حسنا ً يا محمدوف بشيرفيتش، سأبحث الأمر مع الزملاء فى المكتب السياسى للجنة المركزية ولا تقلق فساوصى بالموافقة لكن عليك إلتزام جانب الحذر فلا أريد أن اقرأ فى (ألوان) أنك أصبحت أحد اقطاب الجمعية التعاونية للمخابرات الصينية".
طمأنت جورباتشوف وشكرته من كل قلبى. ووضعت سماعة التلفون جانبا ً وأنا اتصبب عرقا ً فقد كانت تجربةً قاسيةً ومأزقا ً حرجا ً خرجت منهما باعجوبة. نظرت من النافذة لأرى تباشير الفجر تطارد فلول الظلام وتملكنى شعور غامر بالسكينة وراحة البال وانزاحت عن كاهلى بواعث القلق والأرق. كانت التجربة قد أنهكتنى ذهنيا ً وأرهقتنى جسمانيا ً فشعرت بالإسترخاء يغمرنى والنعاس يداعب جفونى.
وفجأة صحوت من غفوتى على رنين التلفون المتواصل. قفزت واقفا ً وأفكارا متضاربة تتصارع فى ذهنى. ماذا حدث؟ هل تمكن جورباتشوف من جمع أعضاء المكتب السياسى فى هذا الوقت الوجيز؟ أم لعله قد غير رأيه فى الموضوع برمته؟
رفعت السماعة بيد مرتجفة وجاءنى صوت عاملة الهاتف وهى تسأل 2ن كنت على استعداد لتلقى مكالمة خارجية على أن أدفع قيمتها محليا ً. صرخت فيها بأن تقوم بتوصيل المحادثة فورا ً. ثم سمعت صوتا ً يسألنى: "هل هذا أنت يا مهمد؟" كان صوتا ً أعرفه جيدا فقد سمعته فى العديد من أفلام الكاوبوى الرخيصة.
قلت وأنا اشعر بقلبى يغوص لقدمىّ: "نعم اننى على الخط يا رونى".
قال رونالد ريجان: "اننى أتحدث من تلفونى السرى فهل خطك مؤمن؟"
لم أحاول أن أزيد من إرهاقى بالرد عليه فتابع ريجان حديثه قائلا ً: "أسمع يا مهمد أن أمامى تقرير عنك من مخابراتنا (السى.آى.ايه)".
وجدت نفسى لا شعوريا أقاطع ريجان قائلا ً بصوت أنهكه الارهاق: "لا تقل لى يا رونى أنك أيضا تقرأ صحيفة (ألوان)؟"
فرد ريجان مستغربا ً: "وكيف عرفت ذلك؟"
وعندما لم أجبه أستطرد قائلا ً: "فى واقع الأمر أن التقرير يتعلق بما ورد عنك من ميول شيوعية فى المقال المنشور بصحيفة (ألوان) العدد ۳۲۳ الصادر يوم الخميس ۳۰ ذو القعدة ۱4۰۸ هجرية...."
الأيام 4 أغسطس ۱۹۸۸
القاهرة 9 أبريل 2014
mohamed hamid


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.