إنتابنى شعور عارم وأنا أتابع شريط الاحداث فى السودان، خاصة منذ تٙفجُر الأوضاع فى هيجليج وأبيى، بأن ما أشاهده قد عشته أو رأيته من قبل. تذكرت 'المسيرات المليونية‘خلال الفترة الانتقالية بمدعاة دعم القوات المسلحة، والحشود والتظاهرات لحاملى المصاحف إستجداءا للعواطف الدينية و لإرهاب و إضعاف حكومة المهدى فى عهد الديموقراطية الثالثة ، ثم تحويل الحرب الاهلية فى الجنوب الى جهاد دينى،مع تخويف وتخوين الخصوم والمعارضين. تذكرت أيضا أنه، تبعا لهذا المنهج، فقد تم اتهامى فى منشورات الجماعة بالشيوعية فى الفترة الانتقالية ثم تم ترفيعى فى صحفهم لعميل بوكالة الاستخبارات الامريكية خلال فترة الديمقراطية الثالثة. ولم أدم طويلا فى تلك المنزلة الرفيعة من العمالة المزدوجة ففى أواخر العهد الديمقراطى قامت صحيفة 'ألوان‘ بتنزيلى، ضمن مجموعة من الزملاء، الى مرتبة 'الطابور الخامس‘ للحركة الشعبية لتحرير السودان. كان أحد ردودى على تهجمهم على َّ حينذاك هو هذا المقال الذى نشر وقتها بالعربية (صحيفة 'الخرطوم‘) و الانجليزية (سودان تايمز) والذى أتمنى من إعادة نشره مؤازرةً كل من طُعِنۤ فى وطنيتهم، خاصة بعد احداث هيجليج الأخيرة محمد بشير حامد هواجس ساخرة الطابور الخامس لابد أن بعضهم قد خّبَر عنى لدّى السلطات فمن غير أن أرتكب أية جريمة وجدت نفسى متهما ً بأننى 'طابور خامس‘. وفى البداية لم أعر الأمر أى اهتمام لأننى ببساطة كنت اجهل ماذا يعنى مصطلح 'الطابور الخامس‘ على وجه التحديد وإن ارتبط فى ذهنى بالالعاب الاولمبية لسبب غامض لا أجد له تفسيرا ً الأن. وقد صرفت الموضوع برمته بحسبان أنه لا يخرج عن نطاق الإرهاب السياسى والتشهير الشخصى الذى أدمنت ممارسته بعض الجماعات و الصحف التابعة لها. ثم أنه لم يكن من داعٕ لأن يسبب الاتهام قلقا ً لى فهناك العديد من الشخصيات التى تورطت فعليا ً فى أعمال غير قانونية خلال حقبة السلطنة المايوية فابدعوا كمستشارين فى صياغة التشريعات 'البيعية‘ وتجلت عبقريتهم كاقتصاديين فى التعاملات 'التضاربية‘ او المضاربة 'التعاملية‘. لم يحدث لأحد منهم أى مكروه بل أنهم بعد إنقراض عهد الإمامة تصدوا للعمل السياسى ثم تصدروه. لماذا إذن اقلق لمجرد أن بعضهم قد قرر إتهامى بأننى 'طابور خامس‘؟ ومما زاد من إطمئنانى إقتناعى التام أن الجماعة التى خّبَرت عنى تدعى زوراً إحتكار الوطنية، الدنيوية منها والدينية، و تتعامل مع كل شخص يخالفها الرأى على أنه مارق و ملحد و عميل وطابور خامس الى آخر المصطلحات التى أدخلوها فى قاموس السياسة السودانية. كنت على يقين أن أحداً لن يصدق إتهاماتهم المفترية خصوصا ً إذا نظر المرء الى سِجل ماضيهم السياسى الُمعِيب. ولكن يبدو أننى فى هذا الشأن قد اخطأت التقدير فلم أكن أدرى أنهم طورا لحد الإتقان النظرية الهتلربة التى تقول أنك إذا رددت الكذبة مراراً وتكرارا ً فسيصدقها الناس فى آخر الامر. وبالتالى فإن قناعاتى الساذجة بحقيقة براءتى سرعان ما بدأت تتضاءل بدرجة متوازنة لردود الفعل لإتهامى. اول ما اكتشفت هذه الحقيقة المرة كانت عندما حضر احد اصدقائى المقربين ليعلن أنه يتبرأ من ضداقتى و يعلق و هو يهز رأسه بأسى أنه خلال الحرب الأهلية الأسبانية كان يتم إعدام المنتمين للطابور الخامس رميا ً بالرصاص. والحقيقة أننى لم افهم وجه المقارنة بين الإتهام الموجه لى والممارسات التى تمت خلال الحرب الأهلية بأسبانيا فى الثلاثينات، فأنا لم احارب فى صفوف الجمهوريين (الاسبان وليس السودانيين) وقطعا ً لم تكن لى صلة بجماعة الفاشية (الاسبانية او السودانية). ثم أن ربط إتهامى بما حدث فى الثلاثينات لا معنى له فوقتئذ لم أكن حتى مجرد خاطر فى ذهن والد َّى. ثم بدأت الاحظ أن الناس فى الطرقات ينظرون لى شذراً وسمعت عدة مرات من يتحدث هامسا ً "ده طابور خامس“ واسترعى انتباهى أن الكل بدأ يتجنبنى كأننى مصاب بمرض 'نقص المناعة المكتسبة من الإغاثة‘، ولاحظت أيضا أن الكثير من معارفى قد توقفوا عن مبادلتى التحية و السلام. وقد تعقد موقفى بالذات داخل محيط العائلة فوالدى بدأ يتحدث عن العار الذى وصمت به اسم الاسرة و يردد أنه سيطلب فى صلواته من الله تعالى أن يخرجنى من زمرة 'الطابور‘. اما أخى الاصغر، و هو ضابط عسكرى، فقد بدأ يتحدث فى إبهام وضيق عن وجيعة ُالطعنة من الخلف‘ وأقسم امامى بعدم الوقوف معى فى صف واحد مستقبلا ً مما فهمت منه – خطأ ً كما تبين لى لاحقا ً- انه يقصد عدم مشاركتى السهر فى طابور البنزين. اما أخى الاكبر فبحكم أنه رجل أعمال وبالتى فهو واقعى التفكير فقد نصحنى بإعلان التوبة النصوح بعد أن اعترف بجريمتى بشكل درامى فى صور متعددة و'الوان‘ مختلفة فى وسائل الإعلام واعلن عن استعدادى لرفع 'الراية‘ مستسلما ً و التقدم الى الخلف متى ما طُلب منى ذلك. واضاف شقيقى بتهكمه المعهود أن مثل هذا الاعتراف سيكفل لى صكوك العفو والغفران، و من يدرى فقد تجود الجماعة على َّ بعمود ثابت فى إحدى صحفهم 'على مسؤوليتى‘ الخاصة! أما فى منزلى فقد تأزم الموقف لحد كارثى. فزوجتى أصبحت فى حالة إكتئاب دائم ولما سألتها عن السبب انفجرت صائحة:"يعنى ما عارف العملتو شنو؟ أنا ما عارفة كيف عشت معاك السنين دى كلها من غير ما اعرفك على حقيقتك يا طابور يا خامس! ايه خلاك تعمل عملتك الشينة دى و تركب معاهم حصان طروادة؟“. ألجمت الدهشة لسانى. ماذا تعنى بالركوب فى حصان طروادة؟ هى تعرف أننى لا أستطيع حتى إمتطاء الحمير، ثم أننى لا أمتلك حصينا ً طروادية كانت أم من نسل آخر. وقبل أن أستفيق من صدمتى دخل الغرفة إبنى الصغير و أخبر امه وهو يبكى أن زملاءه فى المدرسة بدأوا ينعتونه باسم 'ابن الطابور الخامس‘. هرولت خارجا ً تطاردنى صيحات زوجتى و إحساس محبط يعتصرنى بأننى لن أعود لمنزلى أبدا ً. أيقنت أن أبعادا ً مأساوية قد خيمت على موقفى، وكل ما زاد تفكيرى فى محنتى تضاعفت حيرتى فى أسبابها. فحتى تلك اللحظة لم يطرح أحد صراحة السؤال البديهى عن ماهية الجريمة التى أنا متهم بإرتكابها. قررت على الفور أن الأمر يستدعى إستشارة قانونية فتوجهت لمكتب أحد أصدقائى من المحامين والذى إستقبلنى وكأنه لا يعرفنى. سألت المحامى إذا كان إتهامى بأننى طابور خامس سيقود لمحاكمتى، فأكد لى بأن هذا أمر بديهى و عبر عن دهشته لعدم قيام السلطات بإعتقالى بعد، خصوصا ً وأن الإدانة فى حالتى تحمل العقوبة القصوى 'لحد الحرابة‘. سألته أن يحدد لى الجريمة التى إرتكبتها فقال أنه لا يعرف أبعاد الجريمة على وجه التحديد ولكن من البديهى أن مجرد إتهامى يعطى معنىً أكبر لجريمتى وبذلك تكتسب العقوبة شرعية أشمل تجعل منى عِبرة لغيرى. فالادانة فى حالتى لن تكون مبنية على صحة الإتهام أو بطلانه و لكنها تعتمد أساسا ً على موقفى تجاه معتبرات أصولية و بالتالى تصبح لها ضرورة حدية. لم أفهم الكثير مما قاله المحامى ووجدت نفسى أُردد بمرارة كلمات كافكا فى قصته المحاكمة:"لكن أنا زول برئ والموضوع كله مجرد خطأ فكيف أكون مذنبا ً فى جريمة لم أرتكبها؟ ياخى نحن كلنا بشر نتساوى فى كل شئ و نشبه بعضنا فى كل حاجة. الحصل لينا شنو ؟ هل أصبح الكذب والإفتراء ديدن حياتنا؟“ أجاب المحامى أنه تعلم من خيرته الطويلة أن ااذين يدعون البراءة ويرددون أن الأمر برمته مجرد خطأ هم عادة مذنبون حتى النخاع. سألته إن كان يقبل تولى قضيتى فهز رأسه نفيا ً وقال انه قد دافع فى كثير من الأحيان عن قضايا ميئوس منها ولكن الوضع فى قضيتى مختلف فهو كمحامى له سمعته المهنية والاجتماعية التى يتوجب عليه المحافظة عليها. تركت مكتب المحامى و تجولت فى الطرقات والدنيا تدور بى. جلست على شاطئ النيل وأنا احاول أن الملم أفكارى الشاردة. لم يعد فى ذهنى شك بأننى فعلا ً طابور خامس، فإذا لم يكن الأمر كذلك فلماذا يهتم أى شخص أو جماعة بإتهامى؟ ولكن السؤال الذى استعصى علىّ فهمه كيف أصبحت طابورا ً خامسا ً من غير أن أدرك ذلك؟ بدأت أستعرض شريط حياتى فأكشفت أن تاريخ ميلادى هو الساعة الخامسة من اليوم الخامس من الشهر الخامس وأننى فى احدى شطحاتى طلعت الخامس فى فصلى. واكتشفت أيضا أن عدد أصدقائى لا يزيد عن خمسة وقد توصلت لهذا الرقم بعد أن قمت بعد الاصوات التى حصلت عليها فى إنتخابات دوائر الخريجين (لم أكن وقتها قد وعيت لعبة قومية الترشيح و إقليمية التصويت). كما أن فريق التحرير الذى اشجعه ينهزم دائما بفارق خمسة أهداف. وكلما أمعنت التأمل فى أحداث حياتى ظل الرقم 'خمسة‘ يقفز إلى ذهنى وكأنه عفريت ربط نفسه بى منذ مولدى. وتأكد لى بما لا يدع مجالا ً للشك أن علاقتى المريبة بهذا الرقم ترقى لتهمة الشروع فى عمل غير أخلاقى! وبعد ذلك إنصرف ذهنى للتفكير فى علاقتى بكلمة 'الطابور‘. وأعترف أننى إستعنت بالقاموس ووجدت أن كلمة طابور يتوافق معناها مع كلمة 'صف‘ أو 'عمود‘. وأكتشفت أن هنالك صلة حميمة تعود لطابور الصباح فى المدرسة فلم أتغيب عن حضوره إلا مرات قليلة لعلها خمس مرات. وكغالبية الشعب السودانى فقد أصبحت خبيرا ً فى الوقوف فى الطوابير لشراء ضروريات المعيشة. ولمصادفة، أعرف الأن أنها لم تكن محض صدفة، أكون دائما ً 'الخامس‘ فى الصف عندما تنتهى الكميات الموجودة. لم يعد عندى أى شك فى أنى مذنب. فالذين اتهمونى لم يكونوا مخطئين تماما. ومن المفارقات أن التهمة ضدى إتسمت بالعمومية و الغموض وفى نفس الوقت تضمنت مغزىً محددا ً ومعنىً واضحا ً. فأنا مذنب لأننى 'طابور خامس‘ وليس لأى جريمة معينة. فيجب أخذ أفكارى و حياتى ككل لتحديد أبعاد الجرم الذى إقترفته. و بمجرد أن إكتملت قناعتى بأننى مذنب إنتابنى شعور بإرتياح غريب وبرغبة ملحة فى أن يتم تنفيذ العقوبة الحدية فى َّ بأسرع فرصة ممكنة. ولعل مبعث هذا الشعور أن الطابع المقرف لجريمتى أعطانى نوعا ً من التميز الفريد الذى جمع بين النذالة و النبالة فى آن. وكما يبدو أن قناعتى بجسامة جريمتى قد منحتنى نوعا ً من الغفران السماوى و أكسبت حياتى معنًى روحيا ً كانت تفتقده من قبل. فلو كنت جديرا ً بأن أُتهم بجريمةلم أرتكبها فأنا جدير أيضا بتلقى العقاب االرادع لها.ولا أخفى أننى شعرت بنوع من الفخر فلو لم أكن أعنى شيئا ً للجماعة لما اهتمت بإتهامى فى المقام الاول. بدأت بعد ذلك أخبر كل من ألقاه بأننى 'طابور خامس‘ و أن السلطات لها علم بذلك وستقوم بتنفيذ العقوبة الحدية فى القريب العاجل. وأبدى بعضهم تعاطفهم متمنين لى نهاية سريعة. و نصحنى أحدهم قائلا:"يا زول ما تخليهم يلخبطوا قضيتك ذى ما لخبطوا أى حاجة تانية فى البلد“! وظللت أنتظر إعتقالى بفارغ الصبر وامضيت أيامى قابعا ً أمام مبنى رئاسة الشرطة لاوفر عليهم مشقة البحث عنى. ولإستيائى الشديد لم يهتم أحد بأمرى و بدأت أتضايق من هذا البطء غير المفهوم فلا يعقل أن تنسى السلطات القيام بإعتقالى حتى ولوتحفظيا ً، فما الداعى لسن قوانين الطوارئ إذا لم تستعمل فى مثل حالتى؟ قررت أن أضع حدا ً لهذا التهاون والتسيب فذهبت لمقابلة مدير الشرطة الذى أخبرنى أن قضيتى قد حولت لديوان النائب العام لمتابعة بقية الإجراءت. توجهت فورا ً للديوان فقابلنى النائب العام بإبتسامته 'الصفراء‘ المعهودة و أبدى تعاطفا ً مع موقفى وأنا أشرح له ضرورة الإسراع بإعتقالى وتقديمى لمحاكمة ميدانية وإصدار الإدانة الحتمية وتنفيذها غلى الفور. فأخبرنى بانه سيفعل كل ما يستطيعه للإسراع بإجراءت المحاكمة فور ما تنتهى الجمعية التاسيسية من إجازة القوانين البديلة. وأكد لى مُطمئنا أن الإدانة فى حالتى لا تأتى بمفردها ولكن الإتهام فى حد ذاته والإجراءت فى مجموعها تذوب تدريجيا ً فى الإدانة نفسها وتؤدى بالتالى إلى ترسيخها. وبما أنى لم أفهم الكثير فى تلك المصطلحات القانونية فقد أكدت له مطالبتى بحقى فى الإدانة الفورية وتوعدت أن أقوم بتنفيذ حدودها بنفسى إذا لم أجد إستجابة سريعة من جانبه. وهنا بدأ عليه الإنزعاج وقاظعنى قائلا ً بنبرة قلقة أن أى تصرف متسرع من جانبى سيكون محرجا للغاية للسلطات وسيسبب تعقيدات لا حد لها فى الإجراءت القانونية. واستطرد قائلا أن القضاة سيجدون أنفسهم فى عطالة مقنعة إذا قام كل متهم بإدانة نفسه وتنفيذ العقوبة ذاتيا ً، كما أن ذلك من شأنه أن يجعل القوانين البديلة غير ذات موضوع. وترجانى أن أتذرع بالصبر واعد ًا بأن يولى قضيتى اهتمامه الشخصى، وأشار إلى الملفات الضخمة المبعثرة فى مكتبه وقال لى فى لهجة لا تخلو من الإعتذار والتوسل:"شايف الفايلات دى كلها…والله نحن لغاية حسع ما انتهينا من قضايا 'الطابور الاول‘.“! الخرطوم اكتوبر 1988