[email protected] أنا بالقطع لا أؤمن بأن (ثلاثة ارباع السودانيين حرامية) كما صرحت الدكتورة سعاد الفاتح البدوي، غفر الله لها ولنا. كما لا اؤمن بأن كل الشعب السوداني منافق يتميز ب (عدم الصدق)، كما زعم الدكتور حيدر ابراهيم على، ثم اعتذر عن قوله الأخرق الفاحش، في مقاله الاسبوع الماضي، بقوله إنه إنما كان يتمثل المقولة الشعبية (اسمع كلام الببكيك وما تسمع كلام البضحكك)! وحبيبنا حيدر في هوسه المتعالي وغروره الانفعالي يذكرني بالفوهرر أدولف هتلر: دخلوا عليه مخبئه ليخبروه بأن الروس يتقدمون وانهم على مشارف برلين، فنهض من كرسيه واخذ يبرطم ويدمدم، فشتم الشعب الالماني عن بكرة أبيه شتماً مقذعاً، وقال عنه انه شعب متخاذل وخائر وضعيف، لأنه فشل في ان ينهض الى مستوى التحدي. وهتلرنا – أقصد حيدرنا - غاضب من شعب السودان، لأنه كان يتوقع منه ان يرتفع الى مستوى التحدي الذي رسمه له وأن ينتفض فيسقط نظام العصبة المنقذة، ثم يستدعيه بعد ذلك من مرابعه ومجالس سمره في تيراس شيراتون رمسيس بالقاهرة ومقاهي مصر الجديدة، حيث يعيش متلطعاً، ليتولى رئاسة وزارة حكومة الانتفاضة. وقد أزعجني سقوط حيدر المدوي هذه المرة وهو يشتمني في مقاله أمس الأول المعنون (الانشطارية والتناقضات المتساكنة)، دون ان يذكر اسمي، كما هو معتاد عنه، مثلما كان دأبه في ثلاث مقالات له سابقات. وقد استعاد في وصفي ألفاظاً سقيمة عقيمة، فقدت كل معنىً ومدلول لكثرة ما استهلكها في نعت خصومه وأعدائه الكثر. وكيف لا يكثرون وهو يوزع الشتائم المجانية بالجملة، دون رابط من عقل او ضابط من عاطفة. وتلك اتهامات ونعوت عهدتها وحفظتها عن من هم على شاكلته من "المناضلين"، مثل (حكامة) و(جنجويد) و(مرتزقة)، و(الكلمة العاهرة) ومثل كوني اتلقى من حكومة البشير راتباً مقطوعاً مقابل كتاباتي، بالاضافة الى (مظروف سمين) عقب كل مقال أنال فيه منه هو شخصياً (يا للوهم، يا للغرور، يا للأنا المتضخمة). وهو يكتب هذه الكلمات بيقين العارف، وكأنه كان حضوراً وشهوداً يوم صُفت الأوراق النقدية في المظاريف. ثم ركب حيدر مركباً صعباً عندما ذكر أسماءً لشخصيات بعينها (الاساتذة احمد عبد الرحمن محمد، د. ابراهيم احمد عمر، د. عبد الرحيم علي) وقال بأنها لا تجروء على التعرض له كما افعل أنا، لأن هؤلاء بحسب كلماته (محترمون ذوو تربية اصيلة)، الأمر الذي يجعل مني – وفقاً لمفهوم المخالفة – فاقداً للاحترام وذي تربية وضيعة. وهو مركب ما كنت أظن حيدر يركبه، مهما طفحت به الأحقاد والمرارات وسخائم النفس، ومهما بلغت به الموجدة على كاتب هذه الكلمات، لو أنه هو نفسه عرف (التربية الاصيلة) واُسلك مسالكها واُشرب مشاربها. لماذا كل ذلك؟ لمجرد انني سطرت مقالاً اتناول فيه احدى كتاباته بالنقد؟ وكل ما سطرته محفوظ في ورق الصحف ولوح الأسافير، لا يستطيع حيدر ولا غيره أن يضع اصبعه على كلمة واحدة فيه فيقول عنها أنها نابية اوخارجة عن اصول اللياقة والخلق والاحترام. صحيح أنني اكتب أحيانا بلغة ساخرة، ولكن من قال أن السخرية تجيز وصف الكاتب بأنه (حكامة) و(مرتشٍ) و(عاهرة) وانه ذو تربية وضيعة؟ وتلك عبارات قد يجوز ان تسمعها في مجالس الخندريس وغرز الحشيش، ولكن احدا لا يتصور ان يدرجها في مقال منشور رجل يزعم لنفسه أدوارا تنويرية، ويطمح، في سودان ما بعد الانقاذ، الى مواقع قيادية! السلوك الانفعالي والتعدي وتجاوز الحدود الحمراء والتقليل من شأن الخصوم سمة ملازمة لصاحبي هذا عرفناها عنه من زمن قديم. وهي في مجملها نتاج لانفلات (الأنا) في شخصية الرجل. ولا غرو انه عرف بازدراء الجميع، أكاديميين ومثقفين وكتّاب ونشطاء وساسة. وقد امتد ازدراؤه مؤخراً، كما رأينا، ليستوعب جميع أبناء شعبنا بغير فرز. ذات مرة قرأت عبارة للممثل الكوميدي الامريكي ويليام كلود فيلدس يقول فيها: "لست متحاملاً على أحد، إنني أكره الناس بالتساوي". ولا أظن انني وقعت على عبارة تنطبق على حيدر، مثل عبارة كلود فيلدس هذه! الشئ الوحيد الذي يحيرني في شخصية حيدر هي التناقض العجيب بين حالة العنجهية والانتفاش و(العنطزة) التي وطن نفسه عليها، بحيث بلغت به الجرأة وقوة العين ان يتهم مناظريه بالافتقار الى (التربية الأصيلة)، وبين واقع عدم الاتساق التربوي الاخلاقي الذي يطبع حياته وممارساته هو شخصياً، الأمر الذي يجعله في ناظري اقرب الى بلهوان في سيرك استعراضي. ماهو كسب حيدر ومحصوله في الحياة العامة السياسية والثقافية؟ بل دعني اسأل قبل ذلك: كيف يعتاش حيدر في هذه الدنيا العريضة؟ الذي أعرفه هو انه وبمثلما يعتاش الاسلامويون الذين دبروا ونظموا انقلاب الانقاذ على دولتهم، التي ظلت قائمة على أرض السودان لربع قرن من الزمان، فكذلك يعتاش صاحبنا. أعني انه يكسب رزقه من وجود دولة الانقاذ نفسها، ويعتمد اعتماداً كليا في مأكله ومشربه وتمويل حياته، هو واسرته، على حياة الدولة الاسلاموية ذاتها. كيف؟ عرف حيدر صبيحة الثلاثين من يونيو 1989 - بحكم صلاته الاجنبية وانفتاحه على الغرب - أن الدهر العابس قد ابتسم له وأن ليلة القدر قد فتحت له مغاليقها، فكان اول الساعين الى أبواب الدول والمنظمات الاجنبية، قبل ان يعرف طريقها غيره من (المناضلين) الذين لحقوا به بعد ذلك. والشاعر بشار بن برد يقول (من راقب الناس لم يظفر بحاجته / وفاز بالطيبات الفاتك اللهجُ)، وبعده قال سلم بن عمرو (من راقب الناس مات هما / وفاز باللذة الجسورُ). ولا أظن ان السودان قد عرف مثقفاً فاتكاً جسوراً درّب نفسه على الفوز بالطيبات والظفر بالملذات مثل حيدر! انتقل الرجل فور سماعه قعقعة العسكر ليعيش في عدد من العواصم العربية حيث انشأ (سبوبته)، التي اطلق عليها مركز الدراسات السودانية، ثم تفرغ لكتابة (البروبوسالس) التي اتقنها وبرع فيها كما برع شيبوب التغلبي في صيد الغزلان. وشرع يقدمها للأجانب في صور واشكال ونسخ مختلفة، ثم يحصد ويكنس من أموال الفرنجة أشكالاً وألواناً، منها الدولار ومنها اليورو، وكل ذلك باسم (النضال) وباسم إشاعة الوعي وترسيخ قيم الديمقراطية، طارحاً نفسه ومركزه، أمام الدوائر المانحة كبؤرة لمناهضة النظام الاسلاموي في السودان وقلعة لاستعادة الديمقراطية وتعزيزها. هكذا ومن يومها والرجل يقوم، من خلال الورق بتحويل ممارسات حكم العصبة المنقذة الى رأسمال يتيح له التكسب الدائم والمستمر من خزائن خصومها. وهو في هذا لا يختلف عن المتكسبين من موائد الانقاذ نفسها بشكل مباشر من أكلة السحت والمال الحرام. ومن يزعم انه عرف لحيدر عملاً او موردا للرزق غير الذي ذكرت فليدلني عليه وله الأجر والثواب. واتساقاً مع مقتضيات أكل العيش فقد تخصص الرجل في الاسلام و(الاسلاموية) فأخذ يؤلف الكتاب تلو الكتاب عن الاسلام السياسي وأوضاره وأخطاره. هل رأى أحدكم كتاباً لحيدر ليست عليه كلمة (اسلام) او(اسلاموي) او(اخوان مسلمين)؟ لا اعتقد، فأكل العيش غلاب. وكل ذلك بطبيعة الحال في اطار مقتضيات التماهي مع سياسات ومطلوبات التمويل عند أصحاب العيون الخضر من الفرنجة. أهل النظام إذن يأكلون من سنام انقلابهم ومن خير الانقاذ، وحيدر بدوره يأكل من سنام المنظمات وخير الدول الاجنبية التي تدفع له ولمركزه الذي يفترض أنه يناهض الانقاذ والاسلاموية. وياله من سنام، وياله من أكل! فقد عاش الرجل - باسم النضال ضد الانقاذ والاسلاموية - ربع قرن من الزمان، يتنعم في المدائن الفاخرة والبيوت العامرة، يأكل في افخر المطاعم، يجالس ذوي الهيئات، ويسافر بين دول العالم متوهطاً الدرجات الاولى على متن اللوفتهانزا، طائرته المفضلة. ثم أنه علم أولاده جميعاً في أفخر مدارس الدنيا وجامعاتها. ما شاء الله، تبارك الله. ونعم النضال! لماذا يغضب حيدر على شعب السودان ويعنفه ويصفه بالنعوت المنكرة لمجرد انه فشل في تغيير نظام الانقاذ؟ يا سيدنا ليكن ان شعبنا قد خيب أملك ولم يرتق الى مستوي التحدي الذي رسمته له، فكن انت كريما معه واحفظ له فضله عليك، وعلى من يليك، فقد اكلتم باسمه وشربتم – لربع قرن من الزمان، وما تزالون - حتي بشمتم، وما تفنى العناقيد. يا رجل: ألا تعرف الحياء؟! كلمة أخيرة للدكتور حيدر ابراهيم علي وهو يلقاني اليوم في موقف أعلم تماماً انه يسوؤه ويغص به حلقه ويفري كبده: يتعين عليك ان تدرك يا فارس الزمان أن كيل السباب وتوزيع الاتهامات الباطلة والتعريض بالآخرين ليس مجاناً، بل أن له كلفة ينبغي تسديدها. وعندما تقف أمام الناس وتقول عن كاتب هذه الكلمات أنه يتلقى الأموال والرشا من نظام الانقاذ، وأن الحكومة جندته ليقوم بعمليات اغتيال الشخصية مقابل مكافآت، حددت انت نوعها وكيفية دفعها، فأنت مطالب بأن ترتفع الى مستوى ما تقول وان تتحمل مسئولياتك كاملة فتبسط أمام الناس ما ظللت تزعم وتوحي لهم انه عندك وفي حوزتك بالتفصيل والتدليل. والا ألزمناك بالتكلفة، وبعض الأكلاف، لو علمت، باهظة قد لا يطيقها أمثالك، فماذا انت فاعل؟ وقد تجرأ علينا قبلك نفرٌ أحسنوا الظن بأنفسهم، مثلما تجرأت أنت، فأخذنا بخناقهم، وعلّمنا على جباههم، وبصقنا في وجوههم، ثم طرحناهم أرضاً وكدنا نعتلي رؤوسهم بأحذيتنا لولا أننا نخاف الله رب العالمين، فعادوا ادراجهم بخسرانٍ مبين، مدحورين محسورين يجرّون أذيال الخيبة. ثم لعلك تسمع نصحي فتقصد أهل الطب النفسي ليعينوك على بلواك ونوائب دهرك، فتزول عنك غشاوة الوهم الضرير الذي ملأ عليك رأسك واستعمره واستحمره، فأخذت تدور كالممسوس تردد أن نظام الانقاذ يدفع الاموال لهذا الكاتب لينال منك. الذي أنا منه على يقين أن قادة النظام لو عثروا عليك - ولو صدفة في عرض الطريق – لوقروك وأكرموا مثواك واستبشروا بطلعتك، ولقبّلوا رأسك ويديك، ولوصلوك بأضعاف ما وصلتك الفرنجة. فلولاك، ولولا أمثالك من النصابين والدجاجلة والأنبياء الكذبة، لما كان لأهل الانقاذ ان يقيموا في سُدد السلطة ربع قرن من الزمان، حتي ملّوا طنافسها وزهدوا في صولجانها! صحيفة (الرأى العام) الخميس 15/05/2014