[email protected] ( 1) لا أكتب لك هنا عرضاً ممّا يعتمده أهل الكتابة "بووك ريفيو"، أي استعراضاً مختصراً لكتاب، بل أني أكتب اليوم نوعاً من الكتابة الحرّة، ومحض خاطرات متداعية، عنَتْ لي بعد أن فرغت من قراءة ما كتب المفكر الثاقب النظر حيدر إبراهيم، في سفره القيّم الصادر من القاهرة أواخر العام الماضي (2013)، وعنوانه "الديمقراطية السودانية". قرأتُ الكتاب المُمتع ثم طرحته جانباً لأني رغبت أن أكتب حوله لا عنه، وأنا بعيد عمّا كتب المفكر حيدر، ألتمس ما ترك الكتاب من أثر على الذي شغلني السنوات الأخيرة، والبلاد تترنّح من هول النزاعات، حتى وصل مداها إلى حدود ملاحقة رئيس البلاد بشخصه. إن كتاب حيدر في مجمله، سياحة فكرية ناقدة للديمقراطية التي مارستها نُخبٌ سياسية في السودان، فأفضت بنا آخر اليوم إلى دورة خبيثة قوامها مسعىً وصفناه بأنهُ "ديمقراطي" لكن سرعان ما أعقبه إنقلاب عسكري، ثم تلته ممارسة ديمقراطية شائهة انتهتْ فترتها الوجيزة بانقلابٍ جديد آخر، وهكذا دارت على الوطن الدوائر. فكرة "الديمقراطية" في تجليّاتها عند النُخب السياسية والثقافية والاجتماعية، وما تفرّع عنها بعد ذلك من ممارساتٍ، ذهبت بالبلاد إلى مشارب شتى، بل – وحتى أكون أكثر دِقة - أقول "مَعاطِش" شتى. . ! عاشت الفكرة غربتها في وطنٍ تجاذبتْ مصائره تجارب طويلة نسبياً، من قوى خارجية وأجنبية، سيطرتْ عليه وغالبت أمره. كانت دولة الفونج - السلطنة الزرقاء- فرصة تخلّق الانتماء إلى أرض متماسك تاريخها برغم تشتت قبائلها وإثنياتها البائنة . كانت دولة الفونج التي أسسها عبدالله جماع وعمارة دنقس، سانحة لاستبصار مكوّنات هوية مميزة، تختلف تمام الاختلاف عن "هويّات" الشعوب التي تساكنت في الإقليم مصر في الشمال و اثيوبيا في الشرق و"السودان الفرنسي" إلى الغرب . ليس التاريخ وحده الذي تماسكنا حوله ، بل هي الجغرافيا وقد حبتنا الطبيعة بمناخ من التنوع بمكان ، فلازم التنوعَ في التاريخ تنوعٌ في الجغرافيا. ( 2) خلال العقود التي تلتْ انهيار دولة الفونج السودانية- وهي الفترة الزمنية التي تقاسمتها قوى خارجية: تركية ومصرية وبريطانية، وتخللتها فترة "الثورة" المهدية وكأنها استثناءا خارج سياق السيطرة الأجنبية على مقدرات البلاد- لم تكن لمفاهيم الديمقراطية من مكان في الفكر الجمعي ولا في ممارسات الحكم المرصودة: لا في فترات السيطرة الاجنبية المتعاقبة، ولا في فترة حكم الثورة المهدوية تحت قياد الخليفة عبد الله التعايشي. ولعلّ التفاوت في تجارب الأمم والشعوب، وما ساد في خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين، من حركة في التاريخ، سيطر فيها القوي على الضعيف، والغني على الفقير، سترى كيفَ انزوتْ ثقافات واضمحلت ، وعلتْ خلالها ثقافات أخرى وسمتْ. ما قصدتُ أنْ أسرد تاريخ مسيرة الشعوب من حولنا، فهذا مقال يختزل الوقائع وليس مطلوباً هنا إيراد ما لا يلزم، إذ الإشارات تكفي. لقد أسفرتْ تجارب شعوب العالم وتوغلها في معاناة مريرة آخر الأمر، عن واقعٍ جديدٍ أبصر الناس فيه ويلات الاحتراب وقد تمثلت في تجفيف قدرات البشر، بل وفي فنائهم وإهدار موارد الطبيعة المتاحة، ووضح – بعد الخراب والخسران- أن في التعايش حياة، يمكن للجميع أن يتقاسموا خيراتها ، قويّهم وضعيفهم، غنيّهم وفقيرهم، وأن التعاون بين البشر هو صمّام السلام الذي يحفظ للبشرية أمانها، ويضمن لها استقرارها . ( 3) لعلّ التوافق الذي أنجزته النخب البشرية بعد أنتهاء الحرب الكونية الثانية في عام 1945م، شكّل مثلاً للجهد الإنساني الذي صوّب نحو حق جميع الشعوب غنيها وفقيرها، في العيش بكرامة، ولا فرق بين أمة وأمة، وبين شعب وشعب ، إلا في اختلاف الموارد الطبيعية والثروات التي في ظاهر وباطنها ، وفي التفاوت في قدرات إدارة هذه الموارد، بما جاء من الفطرة أو اكتُسبَ عبر التعلّم وامتلاك التقنية. لقد رسمت العقائد والكتب السماوية فكرة العدالة في الأرض، وكفالة حق العيش بحرية مصانة وكرامة مقدرة وتركت للإنسان اختياراته . غير أنّ النفس البشرية أمّارة على مدى التاريخ، بالتنافس من أجل السيطرة، والتسابق لتحقيق الأطماع وبسط النفوذ. قويٌ يركب ظهر ضعيف. شرعة حقوق الإنسان التي جلس لصياغة مسوّداتها ممثلون جاءوا من مختلف الأمم والأعراق، ومن مختلف العقائد: مسيحية غربية ومشرقية، وإسلامية، بل وحتى كونفوشيوسية و براهمانية ولا دينية، فأرسَتْ حق كلّ شعبٍ من شعوب العالم في التحكم بموارده وفق ما يرتضي أهل البلد، وحقه في اتباع أسلوب الحكم الذي يرتضي واحترامه لإرادة الشعوب بصفة عامة، واعتماد مباديء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان شرعة توافق عليها الجميع. كان خروج تلك الشرعة قد وقع في عام 1948، وهو العام الذي أنجز فيه الكاتب البريطاني "جورج أورويل " روايته التي أعمل فيها خيالا بعيداً وسمّاها : "1984". كان الظنّ أن العالم بعد الحرب العالمية الثانية مقدم على تحولٍ كبيرٍ حتى عام 1984م. لعلّ العبارة التي كان يبحث عنها "أورويل" قد تفتّق عنها ذهن مفكر أمريكي من أصول آسيوية إسمه "فوكوياما" جاء لاحقاً في نهايات القرن العشرين، هي عبارة "نهاية التاريخ"..! ( 4) هكذا كانت الحرب العالمية الثانية محطة تاريخية مهّدت للشعوب حقها في حكم نفسها، ومن ثم حقها في نيل الاستقلال، عبر أهم وثيقتين أنجزتهما البشرية بعد الحرب الثانية، وهما ميثاق الأممالمتحدة والإعلان العالمي لحقوق الانسان. غير أن ممارسة هذا الحق نزل على الشعوب نزولاً غير متماثل، بحكم تباين ثقافاتها وتفاوت قدراتها وتنوّع مواردها الطبيعية، فاختلفت إلى ذلك تجارب الأمم والشعوب. نعرف أن أوروبا مرّت وعبر قرونٍ متتالية، بتجارب من الاقتتال المرير حتى برزتْ بعدها البلدان الأوربية بحدودها الحالية. وما الولاياتالمتحدة التي فرضت نفسها قطباً متسيّداً بعد زوال الاتحاد السوفيتي، إلا ذلك الكيان الذي خرج متماسكاً بعد الحرب الأهلية الأمريكية قبل أكثر من قرنين من الزمان. وفي النظر إلى القارة الأفريقية، نجد أن الترتيبات الدولية التي أشرنا إليها قد مهّدتْ على نحو جدّي لنيل شعوب القارة حقها في الإستقلال وحكم نفسها بنفسها. ويطلّ علينا سؤال لازم وهو: هل كان بمقدور الشعوب الأفريقية، بل وشعوب العالم الثالث جميعها، (وهي ما اتفق على تسميتها بالبلدان النامية) بقادرة على أن تتولى حكم نفسها بما يتفق ومعايير الممارسة السياسية التي كانت سائدة في أوروبا والولاياتالمتحدة..؟ الإجابة بداهة هي انعدام مثل هذه المعايير، وذلك يفسر بأكثر مما أوضحه كتاب صديقنا المفكر النابه حيدر إبراهيم، وعزاه إلى ضعف المعرفة بمعايير الحكم الديمقراطي، وضعف التمارين الفكرية التي تسيق إحكام مثل هذه الممارسة. ليس ذلك حكم عام، ولكن ثمة استثناءات في تجارب الأمم في إدارة أحوالها السياسية على نسق ديمقراطي رسخ وثبت على مدىً زمني طويل. ( 5) شيء آخر ربما أضعف تجارب بلدان العالم النامي (وذلك تعبير ايحائي يشي بتفاؤل غير متوفر!) وهي أن البيئة السياسية التي انتظمتْ العالم الخارج من أتون حربٍ كادت أن تقضي على أخضر العالم ويابسه وبشره وموارده، هي بيئة "الحرب الباردة". تلك فترة وإن طوَتْ بعدها القوى المسيطرة على أحوال العالم جميعه صفحة الحرب التقليدية المدمّرة إلى غير رجعة، إلا أن صفحة الحرب "الناعمة" نسبياً، شغلتْ القوى العالمية الكبرى، والتي كانت تتحكّم في مصائر الشعوب المستضعفة، تراجعت سيطرتها "الكولونيالية"، وارتضتْ انسحابا متدرّجاً من "مستعمراتها" السابقة التي تمدّدتْ لقرون عددا، والتخلّي عن ممارساتها "الكولونيالية" بما تجاوز دورها في مساعدة تلك الشعوب المستعمرة لتولي إدارة شئونها بمعايير تقترب من المعايير التي اعتمدها العالم المتقدم في أوروبا وفي الولاياتالمتحدة، فوقع التفاوت الذي نشهد الآن. هذا الواقع الفاجع أفضى بنا نحن المصنّفين ضمن سكان "العالم النامي"، إلى التخبط غير المنضبط، والتجريب غير المكتمل في إدارة شئون بلداننا، عبر ما ارتضينا أن نقول إنه "ممارسة ديمقراطية"..! التعليم في يفاعته لم يكبر عبر الزمن، إذ أن جامعة الخرطوم عندنا لم يتجاوز عمرها المائة عام. أنظر إلى جامعة مثل كيمبريدج وأوكسفورد. أين نحن بمئويتنا التعليمية من قرون كاملة قطعتها الجامعات الراسخة في الغرب نحو تأهيل بنيها، فتسلحوا لقيادة البناء واستغلال الموارد بحذق تجذّر في العلم بمختلف تفرعاته..؟ أخذنا من الغرب استراقاً خجولا من علومه، وتنصتاً عجلاً لصوت منجزاته ، ممّا حسبناه يعين لإدارة أحوالنا ، وقد خرجنا فرحين بنيل الإستقلال واستشرفنا مصائر غير واضحة الملامح، انبرت لها نخبٌ لا تسندها قدرات فكرية ذات اعتبار، وأقعدها خذلان لا تملك رد عقابيله، للاعبين كبار في واقع عالمي غلب عليه الإنشغال بالتنافس الناعم والقاسي، طيلة العقود الأربعة التي عرّفناها بأنها سنوات "الحرب الباردة". . ( 6) نظر المفكر الحصيف حيدر إبراهيم في الممارسات المؤودة لديمقراطية لم نتبيّن مقوماتها السياسية، ولا تلمسنا بعمقٍ تقاطعاتها مع الشورى التي أقرتها العقيدة ، فطفق رهط منا تابع جذورها في الفكر الغربي ، ورهط آخر توسل لها مقاربات في الفكر الإسلامي. بل ثمّة من سعى لالباس التجارب الإسلامية البكر في سنواتها الأولى لبوسا مما عاصرنا في أو بعد القرن العشرين. ألبس بعض اليساريون على أيام الثورة الاشتراكية في "مصر- عبدالناصر" شواهد التاريخ لبوسا متطرفا، فصيروا الصحابي الجليل أباذر اشتراكياً لا يشق له غبار. ما اهتدينا في تفاكرنا إلى رؤىً تعيننا على ممارسات مستقرّة ومتعمّقة في عقيدتنا وفي ممارستنا للحكم، ولإدارة البلاد بإثنياتها المتنوعة وقبائلها المختلفة وفق قراءة متأنية لتاريخ بلادنا القريب والبعيد. كان الواحد يأمل أن ينظر مفكرونا في أساليب الحكم في كامل وادي النيل، من منابع ذلك النهر الخالد ومن أحباسه إلى مصباته، وظني أن من الجغرافيا يبتديء التاريخ، وكان جديراً أن ننظر كيف كانت تدار أحوال البشر وبأي أساليب وأيّ موجهات وأيّ فكر، عبر هذه المسيرة التاريخية الطويلة في كامل وادي النيل، أم ترانا جبلنا على الشموليات الفرعونية سبيلا لإدارة هذه الأحوال..؟ ( 7) جاءت الديمقراطية التي آلت إلى الغرب في أوربا والولاياتالمتحدة، بعد تجارب مريرة ومعاناة أريق فيها من الدماء أنهارا، ومن الصروح ما لايحصى دماراً وانهيارا، وصاغ التاريخ مآسٍ ومُبكيات حتى وصلتْ تلك البشرية في مسيرها العسير كما في مصائرها المحفوفة باحتمالات الفناء في خاتمة أمرها، إلى أفقٍ من التعايش المشترك والتعاون اللازم، شراكة في القيَم، أسّها احترام حقوق الانسان، وشراكة في الموارد تستهدف تنمية مستدامة ونعيم دنيوي ، يهب بقاء النوع معنىً، ويبقي للفكر الإنساني مكاناً مقدرا. إنّ التوسع في تدارس وفي تطبيق مفاهيم الديمقراطية والحرية وتحقيق النماء، هو طريق يحفّ به الشقاء ويتهدّده القصور البشري الناتج عن ضعف استيعاب حركة التاريخ، ويلازمه ضمور القدرات الثقافية والاقتصادية في أكثر حالاته. ما طرحتُ كتاب الصديق العزيز المفكر حيدر إبراهيم إلا لكثير محبّتي لما كتب ، فكأنّي تلمّستُ من الرّاحل سيدي الطيب صالح أسلوبه في الاقبال محبّاً لما أراد أن يكتب عنه، وإنّي هنا قد تمنّيت التمنّي كله، أن أكون كاتب كتاب "الديمقراطية السودانية" . إنكَ إنْ أقبلتَ عليه وعلى كاتبه كارهاَ- مثلما قد يرغب بعضُ أصدقائنا - فإنّ الخير أن لا تنظر فيه بداية أمرك ، فعزوفك عنه يُحيّد رأيك، ولربّما كنتَ الخاسر، أما المفكر حيدر فقد ربحنا معه كتابا شيّقاً يعين على استكناه مداركنا فيما نحن فيه من عثرات وحسرات.. الخرطوم – 18 مايو 2014 //////////