الى جانب الأسباب المعلنة لمعارضة مصر لسد النهضة، (بعضها مفهوم والكثير منها غث ومثير للغثيان كإغراق الخرطوم وهدم الكعبة) فإن هناك اسباباً خفية وحقيقية لهذه المعارضة، سنستعرض جانباً منها فى هذا المقال. اول هذه السباب واهمها هو الحيلولة دون التقارب بين السودان وإثيوبيا ودق اسفين غليظ ودائم بينهما. ان تكامل السودان مع إثيوبيا، والذى سيكون من منافع سد النهضة، هو اكثر منطقية وإلحاحاً من تكامله مع مصر او اى جار آخر. إن كون إثيوبيا دولة مغلقة يجعلها فى حاجة دائمة للإستفادة من منافذ السودان البحرية وشبكة طرقه وسككه الحديدية الرابطة. سبب آخر، واكثر اهمية، لهذا التكامل هو ان إثيوبيا تجمع بين نقيضين: غزارة مواردها المائية وفقرها للأراضى الزراعية القادرة على اطعام شعبها الذى فاق التسعين مليوناً. هنا تبرز الحاجة المتبادلة: حاجة اثيوبيا للسودان صاحب الآراضى الخصبة والشاسعة، وحاجة السودان لليد العاملة الزراعية لزراعة هذه الأراضى واستثمارها. اخيراً فإن لإثيوبيا ميزة فريد وذات فائدة عظيمة للسودان، ذلك ان الإنحدار الشديد للهضبة الإثيوبية وكثرة مساقطها المائية وقلة نسبة التبخر فيها، يجعلها مؤهلة بشكل طبيعى للتوليد الكهرومائى على غير الحال فى السودان المنبسط السهل والذى يحتاج لبناء سدود كبيرة لذات الغرض. ليس غريباً اذاً ان يكون سعر الكهرباء المولدة من السدود الإثيوبية اقل تكلفةً بكثير من نظيرتها السودانية وهنا مكمن الفائدة للبلدين: كهرباء رخيصة للسودان بدون المشاكل السياسية والإقتصادية والبيئية والإنسانية ولإثيوبيا سوق كبيرة للكهرباء وشبكات ممتدة لشمال وغرب افريقيا. من نافلة القول ان مثل هذا التكامل بين البلدين؛ اثيوبيا منبع 85% من مياه النيل والسودان صاحب اكبر ممر وحوض له، يضعف من الهيمنة التقليدية لمصر على النيل ويخرج السودان من خانة الحديقة الخلفية لمصر، على الأقل فيما يتعلق بالملف الأهم فى علاقتهما. ان تكامل السودان وإثيوبيا يمكن ان يشكل اكبر كتلة سكانية ومائية وزراعية وكهربائية فى افريقيا وهو امر لابد انه شديد الإزعاج لمصر المهووسة بالريادة والقيادة والدور الإقليمى المتوهم. ثانى هذه الأسباب فى اعتقادى هى إتفاقية عنتيبى الإطارية والتى هى اخطر بما لايقارن بسد النهضة وابعد اثراً. فبينما ينذر السد بتخفيض المياه الواردة لمصر فى فترة ملء الخزان، وهو امر يمكن التفاوض حوله وتعويضه من السد العالى، تنذر عنتيبى بخفض حصة مصر من المياه بشكل دائم لحساب دول الحوض الأخرى. وبالرغم من ان السد نفسه ليس من نتائج عنتيبى الا ان بناءه بدون إخطار مصر يتناغم مع مبادئ الإتفاقية بعدم الإعتراف بالإتفاقيات الإستعمارية المجحفة والمذلة. فالرسالة التى تريد مصر ارسالها لدول الحوض عبر معارضتها الهستيرية للسد مفادها الآتى: انه اذا كانت هذه هى ردة فعلنا على السد، مع محدودية اثره، فكيف ستكون ردة فعلنا على انفاذ عنتيبى؟ هذا الإستنتاج ينسجم مع امرين: اولهما محدودية الخيارات المصرية فى حالتى سد النهضة وعنتيبى (وقد تبين هذا جلياً فى اللقاء المذاع بالخطأ بين مرسى وقادة الأحزاب المصرية) وثانيهما براعة المصريين تاريخياً فى هستيريا الصراخ والتهويش والردح والشتائم. السبب الثالث هو ان هذه "الضجة العظيمة" هى فى الحقيقة موقف تفاوضى، ليس مع إثيوبيا فحسب، بل مع سائر دول الحوض عندما يأتى وقت التفاوض، وهو آتٍ لا محالة، حول حصص المياه واستقطاب الفوائد المائية. مصر فى نهاية المطاف تريد ان تحصل على اكبر قدر من الفوائد (كهرباء وفواقد مياه ولحوم) بأقل سعر ممكن. [email protected]