غيّب الموتُ الذي هو حقٌّ علينا جميعاً، ومُدركنا أينما كنا، حتى ولو كنا في بروج مشيدة، تصديقاً لقول الله تعالى: "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا"، أستاذي محمد الواثق، وهو الذي درسني العَروض في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، واُعْتُبِر شاعرٌ مجيدٌ، ومغاضبٌ مصادمٌ في شعره، منتهجاً فيه نهجاً غير مسبوق في كتابة القصيد. وعُرف الأستاذ الراحل محمد الواثق بأنه "هجاءٌ للمدن". ومن أشهر هذه المدن التي هجاها بلسانٍ بليغٍ، وشعرٍ فصيحٍ، أم درمان وكوستي وكسلا، حيث سخر من هذه المدن وأهلها. ويُعدُّ الراحل الواثق من الأساتذة الأجلاء والركن الركين في علم العَروض بكلية الآداب في جامعة الخرطوم. وُلِد أستاذي الراحل محمد الواثق في قرية النَّيَّة شمال الخرطوم عام 1936، وتخرج في كلية الآداب بجامعة الخرطوم بمرتبة الشرف الأولى عام 1963، ثم اُبْتعث إلى جامعة كمبردج البريطانية عام 1967 لنيل درجة الدكتوراه عن بحث في "المسرح العربي القديم"، ولكنه اختلف أيّما اختلاف مع المشرف على رسالته، فعاد إلى جامعة الخرطوم، دون إكمال تلكم الدراسة، لأنّه أصرّ على أن العرب عرفوا مسرح الظّل قبل الأوروبيين وغيرهم. وكان الراحل الواثق مُقرباً لأستاذي الراحل البروفسور العلامة عبد الله الطيب – يرحمهما الله -، وكلاهما مُولعان بنسق القصيدة العربية القديمة. وأحسبُ أن أستاذي الراحل محمد الواثق كان ينتهج في دراساته، منهج التشكيك في كثيرٍ من ثوابت الأدب والشعر، وحياة الكثير من الشعراء العرب، ولا سيما شعراء وكتاب السودان، يستمد ذلك من منهج مرجيلوث، الذي تأثر به الراحل عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، وظهر ذلك جلياً في كتابه الشهير "في الشعر الجاهلي" عام 1926، الذي أُرغم على حذف بعض فصوله، وأعاد إصداره بعنوان "في الأدب الجاهلي" عام 1927. وحجاجي في ذلك، أنه جاهد كثيراً في نفي الحداثة عن الشاعر السوداني الراحل التجاني يوسف بشير، صاحب ديوان "إشراقة"، والذي يعده الكثيرون من مجددي الشعر العربي الحديث، بينما يؤكد أستاذي الراحل الواثق أن التجاني تأثر كثيراً بالشعر الجاهلي، أكثر من تأثره بلغة القرآن الكريم، على الرُّغم من أنه كان من طلاب معهد أم درمان العلمي، وهو معهد ديني في زمانه أقرب إلى الأزهر في مصر. وقد تتلمذتُ على يد أستاذي الراحل الواثق في معهد الموسيقى والمسرح، وجامعة الخرطوم، وكنتُ من الطلاب الذين ينظمون ويرتبون لجلسات ندوة الاثنين، التي كانت تعقد في مكتبه أسبوعياً، طوال عهد الطالبية بجامعة الخرطوم، تحت إشرافه المباشر. وأذكر أنّ هذه الندوة كانت مسرحاً لمناقشات جادة حول ديوانيي شعر أحدهما للأستاذ الراحل محمد الواثق "أم درمان تُحتضر"، والآخر لشاعر أم درماني الشيخ السماني الشيخ الحفيان، بعنوان "أم درمان الحياة". أخلصُ إلى أن قصائده في أم درمان كانت قصائد مغاضبةٍ ومصادمةٍ، خاصةً وأن الكثيرين يعتبرون أم درمان العاصمة الوطنية، ويتحدثون عنها بكثيرِ عاطفةٍ، إلا أن شاعرنا كان يقول عنها ضائقاً منها: يا حبذا أنت يا أم درمان من بلد أمطرتني نكداً فلا جادت المطر من صحن مسجدها حتى مشارفها حطَّ الخمول بها واستحكم الضجر لا أحب بلاداً لا ظلال لها يظلها النيم والهجليج والعشر ولأن أستاذي كان حانقاً وضجراً من كثيرِ أشياء، حتى أن مدينتي كسلا لم تسلم من هجائه لها ولأهلها، حيث يقول: ماذا تقولُ لقومٍ من كسالتهم سَمَّوا مدينتَهُم يا أُختنا كسلا أوشيكَ أشعثَ مُغبَرٌ له ودكٌ لو فاض بالقرب منه القاش ما اغتسلا إذا هممت لمجدٍ كان همهمُ البُن والتمر والتمباك والعَسلا التاكا اسمى من التوباد عندهم وست مريم حاكت فيهم الرسلا وكان أستاذي الراحل محمد الواثق يتخير أصدقاءه في نادي أساتذة جامعة الخرطوم، لا سيما في مائدة الإفطار، ولما كنتُ الطالب الوحيد في جامعة الخرطوم، بحكم عملي في مكتب أستاذي الراحل البروفسور عمر محمد بليل، مدير الجامعة – يرحمهما الله تعالى – كنتُ أرقُب جُلسائه، ولأنه كان قليل المزاح، لم يكن كثيرَ الكلام في مثل تلكم المجالس. وكان لأستاذي الراحل محمد الواثق حضورٌ كثيفٌ، ونشاطٌ متميزٌ في الندوات والملتقيات الأدبية. وكان يحرص أن يتحدث فيها بأسلوبٍ مغاضبٍ ومصادمٍ، فها هو يقول في إحدى قصائد ديوانه "أم درمان تُحتضر": من كُلِّ ماكرٍة في زِي طاهرٍة في ثوبِها تَسْتَكِّن الحَيْةُ الذكر يا بعضَ أهلي سئمتُ العيشَ بينكم وفي الرحيلِ لنا من دونكم وَطَرُ سألتك الله ربَ العرشِ في حُرَقٍ إنِّي ابتأستُ وإنِّي مسَّني الضرَرُ هل تُبْلِغَنِّي حقولَ الرونِ ناجيةٌ تطوي الفضاء ولا يُلْفَى لها أثر وختاماً نسأل الله تعالى أن يتقبله قبولاً طيباً حسناً، ويسكنه فسيح الجنان مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقاً، ويلهم آله وذويه وأصدقاءه وطلابه ومعارفه الصّبر الجميل. "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ".