ابتعدت عن الكتابة في الصحافة السياسية لأكثر من أسبوعين فهي حرفة تصيب صاحبها بالملل والإحباط -بفعل فاعل أحيانا- رغم إن الصحافة مهنة نبيلة تستحق التشبث بها مهما كانت التضحيات، وقد كنت خلال عطلتي الإجبارية مشغولا ببعض الموضوعات الخاصة، وفي بعض الأحيان تجري بيني وبين أصدقائي ومعارفي حوارات تركزت في معظمها حول العلاقات الإنسانية في المجتمع السوداني وتحديدا حول العلاقة بين الشباب من الجنسين، وحول التغييرات الهائلة التي أصابت علاقة الطرفين مع ظهور منتجات العولمة وتحديثاتها، في مقابل ثقافة سلطوية تقليدية قاهرة في كثير من الأحيان رغم ما فيها من ايجابيات. وقد كنت دائما – ومازلت- مع دعم مقترحات الشباب، وتحويل ما نلحظه الآن من (صراع أجيال) إلى (تواصل أجيال) بين جميع مكونات الشعب السوداني، وأرى في التواصل بين الطرفين عنصرا أساسيا لحل كافة أزماتنا الوطنية سواء كانت متعلقة بالسياسة أو الاقتصاد أو المجتمع، كما كتبت أكثر من مرة مطالبا بإتاحة الفرصة أمام الأجيال الجديدة في صنع القرار على كافة المستويات وليس على المستوى السياسي فقط، وأن تدعم الدولة جميع البرامج التي يصنعها الشباب وتساعد في تطويرها، وأن تتوقف الممارسات الطبقية التي تتجاهل قطاع كبير من الشباب يعيشون في الريف وفي إطراف المدن وبعيدين أو مبعدين عن مراكز التعليم والثقافة والحداثة. وشجعتني للكتابة حول هذا الموضوع، شابة في مقتبل العمر تعمل حثيثا على كتابة بحث لنيل درجة الدكتوراه، وهي أيضا مهتمة بالظواهر الاجتماعية وأثارها، فقد تحدثنا مطولا حول موضوع العلاقات بين الشباب من الجنسين وأثر التغييرات الاجتماعية على هذه العلاقات ومدى تطويرها بناء على إرث ثقافي قديم وأفكار حديثة محترمة بدلا من حالة التناقض الخطير التي تصاحب بعض هذه العلاقات والتي تقوم غالبا على نتيجة تزاوج ثقافة تقليدية عميقة وضاربة في الجذور مع ثقافة حديثة اختار معظمنا منها القشور فقط!! كما ناقشت صديق مشغول أيضا بالموضوع بسبب تجربة شخصية خاضها، ووددت أن أنقل حوار دار بين شخص أعرفه وفتاة يعرفها في هذه المقالة، وفي تقديري أن الحوار التالي بين الطرفين محفز لعصف الأذهان من قبل خبراء الاجتماع والعلاقات الإنسانية والشباب أنفسهم للوصول إلى صيغة تفاهم اجتماعي مرضي حول كيفية الخروج من مأزق الفشل في التعامل مع الوضع الاجتماعي المربك السائد بين هذه المجموعة الاجتماعية المؤثرة وحالة التوهان التي يشعر بها غالبيتنا، دون أي اتهامات مسبقة أو أي تجريم لطرف من الطرفين؛ فالأزمة تخص الجميع وحلها مشترك، ولا أظن أن منابر دينية هائجة أو قوانين أو سلطات تنفيذية ستعالج هذا الإشكال، وإنما بحوار جاد وموضوعي. وفي اعتقادي إن انتكاسات الشعوب لاترجع إلى الضعف في قواها المادية ولا إلى النقص في معداتها الحربية، ومن يظن هذا الظن ففكره قاصر، ففي تقديري أن هزائم الأمم تعود أصلا لأسباب اجتماعية وثقافية، وإن الأمم لا تتقدم إلا بضمانات أخلاقية وقيم اجتماعية داخلية متفق حولها .. والمحزن أن المدنية المعاصرة جلبت معها تناقض فاضح بين مجموعات القيم القديمة نفسها وبين تناقض الثقافة التقليدية وأفكار الحداثة، وضعنا في معمعة لا تنتهي بين متمسكين بأصالة مختلف حولها وحداثيين صارخين في عداءهم لثقافة الأجداد، وغيرنا من يجتهد بصدق لكشف هذا الغموض ومواءمة هذا التناقض، وآخرين من الشباب والشابات تائهين أو لايأبهون بالبحث عن هوية ضائعة. لنقرأ معا بعض مقتطفات من هذا الحوار الذي دار بين فتاة وشاب وحررته بعد الإستماع من الراوي على التفاصيل: # قالت: لماذا ينتابني شعور دائم بأنك لست كما تبدو؟ # قال: في الواقع أنا مرتبك من شكل علاقتنا. # قالت: نحن أصدقاء مقريين من بعضنا البعض ليس إلا، وأنا متصالحة مع هذا الوضع. # قال: ولكن لاحظت إنك تتوددين كثيرا إلى أصدقاءك الشباب غيري؛ ورغم احترامي لعلاقاتك معهم .. مع ذلك فأنت-في كثير من الأحيان- تتخطين الحدود التي أعرفها. # قالت: ولماذا عندما الاطفك أنت لا تقول مثل هذا الحديث والذي يظهرني بمظهر الفتاة السيئة. # قال: بصراحة .. أكذب عليك إذا قلت أنني لست مندهشا من الطريقة التي تتعاملين بها معي .. ولكني أيضا أخفي دهشتي وراء فكرة الرجل التقليدي الذي يبيح لنفسه فعل أي شئ ولا يرضى للفتاة التي تهمه أن تقوم الا بما يعجبه. # قالت: بالفعل أنت رجل سوداني. # قال: أنا شاب متناقض، ربما مثلك تماما .. فقد نشأت وسط ثقافة تقليدية تحترم المرأة، لكن المجتمع الذي أعيش فيه يؤثر على شخصيتي؛ وينظر في كثير من الأحيان إلى الفتاة المتعددة الأصدقاء والمتعددة العلاقات العاطفية على أنها غير جديرة بالاحترام. # قالت: لماذا تزعم أن ثقافتك التقليدية تحترم المرأة، وأنت عندما تكون معي تختبئ عن أعين معارفك؟ # قال: كما ذكرت لك سابقا؛ إنا اخشي على سمعتي وسمعتك في المجتمع الذي يحيط بنا، ويثير استغرابي أنك لا تخافين من هذا الأمر.. ربما لأنك وصلتي إلى مرحلة من التطور الثقافي والثقة بالنفس أنقذتك من الوقوع في براثن الشكوك والريبة من وضعك لدى الآخرين، ولولا ذلك لكنت قد اتهمتك بصفات فظيعة مثل تلك التي يصفك بها المجتمع العامي من الذين يعيشون في وضع معقد قائم على ارث ثقافي به الكثير من العيوب ويحاول رغم ذلك مواكبة أفكار ومعتقدات حديثة. # قالت: إذن أنت تعتقد أنني رغم ما حصلت عليه من تعليم وتقدم في مهنتي وقراءاتي المتعددة في الكتب وإطلاعي على الثقافات الأخرى.. مازلت – في نظرك - مجرد فتاة يمكن إن تكون صديقة مؤقتة .. ولكنك لن تفكر أبدا بي كزوجة أو على الأقل لن تعتبرني مثل أختك. # قال: صدقا؛ إنا رجل سوداني .. لحظات أفكر بك كزوجة ، ولكن الذي أعلمه ألان أنني لا استطيع أن أتزوج بفتاة مثلك .. ولن أكون راضيا عن نفسي إذا اعتدت على أسلوبك في الحياة.. لكنني رجل مثقف واحترم الطريقة التي ترغبين في العيش بها. # ثم قال: أنا جد مستغرب لاهتمامك الدائم بأن تظهري بسلوك الفتاة المتحررة من التقاليد والعادات ولا تمارسين هذا الأمر داخل اسرتك؟ # قالت: التحرر ليس مظهرا وإنما أفكار.. وأفكاري لا تتلاءم مع البيئة الثقافية التي نشأت فيها .. ولا أريد الخوض في معركة مع أسرتي حول هذا الأمر، وأخواتي يتفهمن الآمر جيدا، وأبي وأمي إلى حد معقول، لكن (جدي صعب)!! لكن الأهم من ذلك إنني شخصية مستقلة عن الآخرين ومستقلة برأي وأنا الذي أحدد الطريقة التي أعيش بها وسط المجتمع الذي أكون فيه معظم وقتي. # قال: أين هي الأفكار؛ عندما تخلعين (طرحتك) أثناء بقاءك في العمل أو مع أصدقاءك وترتدينها عندما تقتربين من منزلك؟ # قالت: وأنت الذي تدعي الأصالة؛ لماذا لا تكف عن مصادقة الفتيات اللائي تعتقد أنهن متحررات ولا يناسبن ثقافتك التقليدية؟ # قال: بصراحة؛ هن فعلا يناسبن جزء من ثقافتي التي تعتقد إن للرجل الحق في أن يصادق من يشاء ويلعب ويعربد مع من يشاء وعليه الالتزام في آخر المطاف بزوجة يعتقد أنها ليست على شاكلة ممن صادقهن ولاعبهن. # قالت: أنت بالفعل رجل رجعي ومتخلف ثقافيا، لكنني لا ألومك أنت على هذا النوع من التفكير ولكني أعيب الثقافة التي نشأت عليها. # قال: الحقيقة أنني فقط شخص أتماشى مع مجتمعك المزيف. # قالت: ياصديقي: بل أنت شخص متناقض. # قال: يا صبية؛ أنا أتحدث عن تناقضاتي وتناقضاتك. لم تك تلك خاتمة الحوار بين الجانبين، لكنني ارتأيت الاكتفاء بهذا الجزء من الحوار الذي يشير في تقديري إلى تصادم حاد بين أساليب التعامل مع الحياة في مجتمع واحد، ويؤكد على ما أشرت إليه من حاجتنا الشديدة لحوار اجتماعي فاعل ينغمس في المسكوت عنه في علاقاتنا الاجتماعية دون إبتزال أو تزييف خاصة بين ما يزعمون وصولهم إلى مرحلة التحرر الفكري والسلوكي وبين من يدعون أصالة ثقافية تهزها عواصف الحداثة وتجعل منها منتوج ثقافي مشوه ومتناقض وفاقد الهوية. والقصة التي رويتها نفسها تتكرر، حيث يجري جدلا واسعا في وسط عامة السودانيين حول السلوك ألذكوري والأنثوي الجديد خاصة وسط الشباب من الجنسين، ثم يُطرح بكافة الأشكال والنكهات، سواء بالنقد أو التأييد. اللافت في الأمر، هو أن هذا النوع من الحوار نادرا ما يجري بين الصفوة من الشباب أو بين خبراء الاجتماع، وأحيانا يجري بين الشابات لوحدهن والشباب لوحدهن، فظاهرة هذا الارتباك المزعومة في علاقة الطرفين لم أطلق شرارتها في الواقع، وإنما هي حقيقة واقعة تستحق التأمل والدراسة، ويمكن للمتابع أن يلاحظ الحملة التي تقوم بها بعض المنابر على الشباب وتركز في غالبيتها على البنات ومحاولات إظهارهن بمظهر غير كريم، واتهام الشباب من الذكور ب"المياعة" أو عدم الرجولة لمسايرتهم ضروب الحداثة واشتراكهم في اهتمامات يظنون إنها حكرا على المرأة. لكني في هذا المقال والذي ستعقبه مقالات أخرى حول تأثيرات التغيير الاجتماعي والثقافي على الشباب من الجنسين، أحاول فتح الباب للنقاش بعيدا عن الأجواء المسممة بالاتهامات والصراع الأيدلوجي الحاد، فما زالت "الظاهرة" في بداية انطلاقتها، وما زال الصراع بين كافة الأطراف من مؤيدين ومعارضين محتدماً وعلى أشده، فعلينا إذن أن نبحث عن طريق ثالث. ومادام المقام هنا مقام مجتمع وثقافة، سأروى في المقالة القادمة حوار دار بين شاب وفتاة عن الحياة الاجتماعية الأوربية والحياة الاجتماعية هنا، وهي قصة تحكي عن اهتمامات سطحية لعدد محدود في المجتمع، وناتجة في تقديري عن احتكاك مؤقت مع هذه المجتمعات أو من أجل التهافت على دولارات معدودة أو هي بسبب انبهار شاذ بالسلوك الظاهري لمجتمعات غير سودانية بل غير افريقية ولا حتى عربية. خاتمة: هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ، معجزةً تطهّرُنا بها، وبها تُخَلِّصُ أرضَنا من رجْسِها، حتى تصالحَنا السماءُ، وتزدَهِي الأرضُ المواتْ ؟ علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ فنّ النّهوضِ من الجراحْ. (العالم عباس) khalid saad [[email protected]]