قام السيد علي كرتي وزير الخارجية قام الأسبوع الماضي بزيارة للعاصمة الكينية نيروبي التقى خلالها بالرئيس أوهورو كينياتا والسيدة وزيرة خارجية كينيا ، وقدم دعوة من الرئيس البشير لرصيفه لزيارة السودان. من جانبها ، أشارت وزيرة خارجية كينيا إلى أن الرئيس كينياتا سيقوم بزيارة الخرطوم مطلع العام القادم ، وأعربت عن أملها في أن يقوم الرئيس البشير برد الزيارة في أقرب فرصة ممكنة مما يؤكد رغبة الحكومة الكينية في الانطلاق بالعلاقات بين البلدين لآفاق أرحب. كانت آخر زيارة للرئيس البشير إلى كينيا في أغسطس من عام 2010 للمشاركة في حفل تدشين الدستور الكيني الجديد ، غير أن تلك الزيارة تبعها من الأحداث ما عكر صفو العلاقات بين البلدين عندما قامت مجموعة من القانونيين ونشطاء حقوق الإنسان الكينيين في اكتوبر من نفس العام برفع دعوى للمحكمة العليا تطلب من السلطات الكينية اعتقال الرئيس البشير وتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية ، وهو الأمر الذي أيدته المحكمة الكينية العليا في قرارها حول الدعوى. من الطبيعي أن يكون موضوع المحكمة الجنائية الدولية محط اهتمام الأجهزة الإعلامية التي قامت بتغطية زيارة السيد وزير الخارجية لنيروبي ، ولعل هذا الاهتمام يعود إلى أن الرئيسين البشير وكينياتا مطلوبان لدى المحكمة ، كما أن قضيتيهما شهدتا بعض التطورات المهمة في الآونة الأخيرة. أوردت صحيفة "سودان فيشن" الانجليزية جانباً من البيان الصادر عن زيارة السيد وزير الخارجية والذي أكد فيه الطرفان صحة الموقف الأفريقي من المحكمة الجنائية الدولية والذي عبر عنه الاتحاد الأفريقي في قراره رقم 482 (21) الصادر في مايو 2013. كان قرار القمة الأفريقية المشار إليه قد اتهم المحكمة باستهداف القيادات الأفريقية دون غيرها ، وطالب بعدم مثول الرؤساء الأفريقيين أمامها ، وكان للحكومة الكينية دور كبير في تحريك الموضوع واستصدار القرار ، إلا أن الرئيس كينياتا كان أول من خرق قرار القمة الأفريقية عندما مثل أمام الحكمة الجنائية الدولية مطلع هذا الشهر. غير أن ما رشح من البيان الصادر عن الزيارة ومن تصريحات المسؤولين في البلدين يؤكد أن الهدف من الزيارة كان أبعد من ذلك وهو السعي نحو تمتين العلاقات بين البلدين وتجاوز حالة الجمود التي اعترتها في الآونة الاخيرة ، وقد قع الطرفان على مذكرة تفاهم بشأن إنشاء لجنة للتشاور السياسي بينهما. كما أكدت الزيارة رغبة كلٍ من السودان وكينيا للعب دور أكبر في الأحداث التي تشهدها المنطقة بما يتناسب وحجم الدولتين ، خاصة وأن تحركات بعض الدول مثل يوغندا وإثيوبيا تنبئ عن محاولات لإعادة ترتيب الأوضاع في الاقليم. أبدى الطرفان اهتماماً بالأوضاع في جنوب السودان ، وبالرغم من أنهما لم يشيرا صراحة لوجود القوات اليوغندية هناك إلا أن ذلك يثير لديهما ، دون أدنى ريب ، الكثير من القلق خاصة وأن منظمة الإيغاد لا زالت عاجزة عن توفير القوات الكافية لاستبدال القوات اليوغندية التي ظلت هناك منذ بداية الأحداث نهاية العام الماضي. أبدى الطرفان كذلك اهتماماً بتزايد موجة الإرهاب في المنطقة ، واشار البيان المشترك الصادر عن الزيارة لرغبتهما بالتعاون في هذا المجال. والمعروف أن الحكومة الكينية تعكف الآن على إجازة مشروع قانون في هذا الصدد يلقي الكثير من الجدل على الساحة السياسية ، وقد شهدت جلسة البرلمان التي ناقشت مسودة القانون تشابكاً بالأيدي بين نواب الحكومة والمعارضة. فبينما تقول الحكومة الكينية أن الغرض من القانون هو كسر حدة نشاط منظمة الشباب الصومالية التي قامت بعدد من العمليات الإرهابية في كينيا مؤخراً ، فإن المعارضة ترى فيه تقييداً للممارسة الديمقراطية وإطلاق يد الحكومة لتطبيق قوانين مقيدة للحريات. لا يشير ما رشح عن الزيارة أن كينيا قد أبدت رغبتها في أن تلعب دوراً في التحركات الجارية نحو تحقيق السلام في السودان ، إلا أن العقبات التي تواجه محادثات أديس أبابا بين الحكومة والمعارضة ستضع موضوع السلام في السودان، حسب اعتقادنا ، على رأس جدول أعمال القمة المرتقبة بين الرئيسين. لا جدال أن ما أشرنا له أعلاه من خلفية تتصل بالأوضاع الراهنة في المنطقة يمثل حقيقة مهمة انعكست آثارها على زيارة وزير الخارجية لنيروبي. إلا أن الزيارة تثير قضية أخرى ذات أبعاد استراتيجية مهمة بالنسبة لموقع السودان في القارة الأفريقية التي تمثل مجالاً حيوياً له. ظلت كل الحكومات السودانية منذ استقلال البلاد في عام 1956 تشير دائماً لانتماءها الذي لا يرقى له شك للقارة الأم ، وتعلن عن رغبتها الصادقة في تنمية العلاقات مع مختلف دولها. وقد ظلت مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في شئون الآخرين من الأسس الراسخة التي قامت عليها السياسة الخارجية للحكومات السودانية المتعاقبة. غير أن تحرك السودان داخل القارة واجه عدداً من المشاكل ، واصطدم بالكثير من العقبات التي وقفت عائقاً في طريق تطوير علاقاته مع دولها. ولعله من المعلوم أن أهمية أي دولة على الساحة الدولية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدور الذي تلعبه في محيطها الإقليمي ، فبقدر ما تكون مقدرة الدولة في التأثير على مجريات الأحداث في إقليمها بقدر ما تكون أهميتها على الساحة الدولية. والسودان لا يفتقر بالطبع للإمكانيات التي تجعل منه دولة إقليمية ذات وزن يؤبه له ، ولعل الاستغلال الأمثل لهذه الإمكانيات سيساعد على ترقية وضع البلاد على الساحة الدولية بصورة عامة. كان موقع السودان الاستراتيجي في ملتقى الطرق بين مختلف أنحاء القارة سبباً لأن تكون البلاد مقراً لأربعة من السلالات البشرية الخمس التي يعتقد أنها عمرت القارة الأفريقية عبر تاريخها الطويل. انعكس ذلك بالطبع على التنوع الإثني والثقافي الكبير الذي يتمتع به السودان والذي قل أن يوجد له مثيل على مستوى القارة مما أتاح لبلادنا ، من الناحية النظرية ، فرصة واسعة للتواصل مع جميع الدول الأفريقية دون استثناء. غير أن عجز حكوماتنا المتعاقبة عن إدارة هذا التنوع الثقافي جعل من هذه الحقيقة أكبر نقاط ضعفنا القومي. كان هذا العجز سبباً في ذهاب الجنوب لغير رجعة ، والتهديد بذهاب أجزاء أخرى من الوطن لا قدر الله. بالرغم من هذا الإرث التاريخي الثقيل ، إلا أنه لا يزال في اعتقادنا أن بإمكان الحكومة السودانية والنخبة السياسية في البلاد أن تحول هذا التنوع لمصدر قوة إذا ما عرفت كيف تحقق الهدف الذي طال ما تعلقت به آمال السودانيين وهو "الوحدة في التنوع". كان مجال السودان الحيوي قبل التكالب الأوربي على القارة يتمثل في امتداده الطبيعي نحو الغرب والشرق أكثر مما هو نحو الجنوب. غير أن عدداً من العوامل تضافرت لتجعل من توجه السودان جنوبي الهوى نحو وسط وشرق أفريقيا ، ومن بين هذه العوامل محاولات محمد علي باشا وأحفاده للسيطرة على منابع النيل ، ووقوع السودان تحت الحكم البريطاني الذي سعى هو الآخر للسيطرة على منابع النيل وتطبيق استراتيجيته التي عرفت على الساحة الإعلامية حينئذٍ باسم "من القاهرة إلى كيب تاون". وفي الوقت ذاته فإن معظم دول غرب أفريقيا وقعت تحت الاستعمار الفرنسي مما خلق حائلاً لغوياً بين السودان وهذا المجال الحيوي الذي يتقاسم معه الثقافة الاسلامية والتجربة السياسية. ومع استقلال البلاد برزت للوجود مشلكة الجنوب التي كلفت السودان خمسين عاماً من الاحتراب وعدم الاستقرار ، ووضعت حائلاً سميكاً بينه وبين وشقيقاته الأفريقيات إلى الجنوب. وبالرغم من محاولات الحكومات السودانية المتعاقبة للانفتاح على الدول الأفريقية في محاولة لكسبها إلى جانب موقفها من هذه القضية الشائكة ، إلا أن مشكلة الجنوب كانت في محصلتها النهائية خصماً على تحركات السودان داخل القارة الأفريقية بل وفي غيرها من دوائر تحركها الدبلوماسي. يمكن القول بأن محاولات الحكومة الأخيرة للانفتاح تجاه القارة ومن بينها الزيارة التي تناولناها في مطلع هذا المقال ، ومحاولات توسيع التمثيل الدبلوماسي في القارة تعتبر مؤشراً مهما لعودة الوعي بأهمية أفريقيا بعد كارثة ذهاب الجنوب. وبالرغم من هذه التطورات التي لا نملك إلا الترحيب بها إلا أن السياسة الخارجية السودانية لا زالت تفتقر للاستراتيجية طويلة المدى للتعامل مع القارة الأفريقية أو غيرها بعد أن لف النسيان الاستراتيجة القومية الشاملة بالرغم مما بذل فيها من جهد ومال. ويبدو غياب الاستراتيجية الواضحة للسياسة الخارجية للبلاد امراً في غاية الغرابة بعد ستة عقود من استقلالها كانت كفيلة بأن تضعها على الطريق الصحيح في هذا المجال الحيوي . ولا بد للاستراتيجية المنشودة أن تقوم على حقائق الجغرافيا والتاريخ كموقع السودان الوسيط الذي يمنحه ميزة جيوستراتيجية مهمة ، وتنوعه الثقافي الذي يغني شخصيته القومية ويجعل من تواصله مع العالم الخارجي أمراً ميسوراً ، ومقدراته الاقتصادية التي لم تستغل حتى الآن بالصورة المطلوبة. ولا شك أن كل هذه الأهداف السامية لا يمكن تحقيقها في ظل عدم توفر روح التسامح بين مكونات المجتمع المختلفة على المستويين السياسي والاجتماعي ، والعجز الواضح الذي تعاني منه الأحزاب والتنظيمات السياسية التي تفتقر للنظرة الاستراتيجية المطلوبة لحل مشكلة الحكم المستعصية والتي ظلت تعاني منها البلاد منذ نيلها الاستقلال في عام 1956. [email protected]