هذه مقاربة لدراسة نموذجين من حالات الدول التي خرجت من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ومعرفة مدي تمثلات هذين النموذجين لحالة السودان في تضاغطات السياسة الدولية وتدافعات المياه الإقليمية. وللعبرة التاريخية فقد تم حذف الدولتين من قائمة الدول الراعية للإرهاب من قبل إدارتين مختلفتين في توجهات السياسة الخارجية، فقد تم حذف ليبيا في عهد رئيس جمهوري هو بوش الإبن عام 2007، وحدثت الحالة الثانية، وهي رفع العقوبات من كوبا في عهد رئيس ديمقراطي هو باراك أوباما عام 2015، مما يعني أن تقديرات السياسة الخارجية في رفع العقوبات وحذف الدول من القائمة يعبر عن التوجهات المؤسسية للرئاسة الأمريكية، في إطار استراتيجيات تحقيق اهداف السياسة الخارجية أكثر من كونها توجهات أيدلوجية لسياسات الحزب الديمقراطي أو خيارات الحزب الجمهوري. وقد عالجت في المقال الفائت الذي نشر تحت عنوان (التطبيع مع واشنطون ونبوءة المشي علي طريق كوبا) مقاربة تطبيع العلاقات مع واشنطون علي غرار النموذج الكوبي. وفي هذا المقال نتناول بالتحليل الظروف والملابسات والدوافع التي قادت واشنطون الي حذف ليبيا من هذه القائمة السوداء. وهل تعتبر حالة ليبيا هي المقارب الموضوعي لحالة السودان وهو يسعي للخروج من هذه القائمة؟. اعلنت كوندليزا رايس وزيرة الخارجية في عهد الرئيس بوش الإبن في مايو 2007 عن قرار واشنطون القاضي بحذف ليبيا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهو خبر قابله المراقبون والمحللون بكثير من الدهشة والإستغراب. و قالت رايس إن هذه الخطوة هي استجابة للقرار التاريخي للعقيد معمر القذافي عام 2003 بنبذ الإرهاب، وتسليم اسلحة الدمار الشامل، رغم السجل السيئ للقيادة الليبية في مدونات حقوق الإنسان. وقد بدا هذا القرار الأمريكي للوهلة الأولي كأنه تناسيا للمرارات والحزازات بين الدولتين، والتي بلغت قمتها بضرب ليبيا بواسطة سلاح الجو الأمريكي في عهد الرئيس ريغان الذي كان يصف القذافي بأنه كلب الشرق الأوسط المجنون. كانت الدول الغربية تحتفظ بسجل مفتوح للقذافي جراء انتهاكاته المستمرة لحقوق الإنسان وتمويله لمعظم العمليات الإرهابية التي استهدفت المصالح الأمريكية والغربية في العالم والتي انتهت الي قتل العشرات من مواطني هذه الدول الغربية، خاصة تفجير طائرة بان أم عام 1988 فوق لوكربي، وتفجير الملهي الليلي في برلين الذي قتل فيه أثنين من الجنود الأمريكيين ، وأيواء ودعم منظمات متهمة بالإرهاب منها منظمات فلسطينية والجيش الجمهوري الإيرلندي، ومحاولات متعددة لقتل عدد من الرؤساء منهم الرئيس نميرى، وغزو دولة جارة هي تشاد و استخدام أسلحة كيميائية محرمة دوليا. ولعل المنظمة الوحيدة التي لم يقدم لها القذافي الدعم والمساعدة هي تنظيم القاعدة، بل اصدر أمرا عبر الأنتربول بالقبض علي قادتها خاصة زعيمها الراحل أسامة بن لادن لتورطها في قتل أثنين من العملاء الألمان في مجال محاربة الإرهاب في طرابلس عام 1998. بدأت رحلة ليبيا للخروج من قائمة الدول الراعية للإرهاب في عام 1999، بعد موافقة القذافي تسليم أثنين من المواطنين الليبيين (المقرحي وفحيمة) لمحاكمتها بواسطة قضاة اسكتلنديين في لاهاي جراء اتهامها بتفجير طائرة بان أم 103. وسرعان ما تدخل مارتن أنديك مساعد وزير الخارجية في عهد الرئيس كلنتون، وقام بعقد إجتماعات سرية مع طاقم القيادة الليبية. كشف مارتن أنديك في صحيفة الفاينانشيال تايمز عام 2004 عن فحوي العرض الليبي الذي قدمه القذافي لتطبيع العلاقات وهو: وقف الدعم والمساعدات وقطع العلاقات مع المنظمات الإرهابية في العالم، وتسليم كل مخزونه من اسلحة الدمار الشامل.ولكن رفضت الإدارة الأمريكية العرض وأصرت علي ضرورة أن تتعاون ليبيا في تحقيقات تفجير الطائرة وقبول المساءلة السياسية والجنائية. و انفاذا لتعهداته بقطع العلاقات مع المنظمات المتهمة بالإرهاب، قام بطرد مجموعة أبونضال وبعض مليشيات المقاومة الفلسطينية.لم يكتف القذافي بذلك فقط، بل قام بتسليم بعض المتهمين بالإرهاب الي مصر والأردن واليمن. لذا لم يكن غريبا في التقرير السنوي لمحاربة الإرهاب الذي تصدره وزارة الخارجية أن يؤكد في نسخته عام 2002 أن القذافي اصبح يدين الإرهاب بطريقة دائمة ومستمرة. في اغسطس 2003، وبعد مفاوضات ماراثونية شاركت فيها الولاياتالمتحدة وبريطانيا والأمم المتحدة وافق القذافي علي دفع مبلغ2,7 مليار دولار تعويضات مالية لضحايا لوكربي، أعقبت ليبيا هذا القرار بإتخاذ خطوة سياسية متفق عليها إذ ارسلت خطابا الي مجلس الأمن تعلن فيه مسئوليتها عن تفجير طائرة بان أم 103. عليه لم يكن مدهشا بعد ذلك أن يعلن القذافي في 19 ديسمبر 2003 عن موافقته لتسليم ترسانة أسلحة الدمار الشامل للولايات المتحدة، وجاء هذا الإعلان تتويجا لمداولات سرية بين عملاء من جهازي المخابرات الأمريكي والبريطاني مع الجانب الليبي منذ عام 2002 والتي استمرت حتي قبيل ساعات من إعلان تسليم أسلحة الدمار الشامل. رغم هذه التنازلات من قبل طرابلس إلا أن الطريق نحو تطبيع العلاقات مع واشنطون لم يكن معبدا، فقد طفا الي السطح نبأ الكشف عن محاولة القذافي لإغتيال ولي عهد المملكة السعودية حينها الملك الراحل عبدالله ، هذا فضلا عن تداعيات قضية الممرضات البلغاريات اللائي اتهمن بإصابة مئات الأطفال بفيروس الأيدز. أما مطلوبات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان التي يضعها الغرب علي الدوام شرطا لازما لتطبيع العلاقات فهي لم تكن مطروحة علي طاولة النقاش لأن تسليم أسلحة الدمار كان ثمنا أكبر من ان تتم المساومة عليه بملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان لأنها تعني مزيدا من الحماية لأمن اسرائيل. في فبراير 2004 أعلنت واشنطون فتح مكتب رعاية مصالح في طرابلس كما تم رفع الحظر الخاص بالسفر الي ليبيا.بعدها بشهرين تم ترفيع البعثة الي مكتب إتصال دبلوماسي. وبعد ذلك بنحو عام أعلنت واشنطون عن رفع ليبيا من قائمة الدول الراعية للإرهاب وإعادة التمثيل الدبلوماسي الكامل مع طرابلس. ونسبة لهذه التطورات نجحت ليبيا في شغل مقعد غير دائم في مجلس الأمن عام 2007 دون أن تعترض واشنطون علي ذلك، مما يعني إعادة كامل عضويتها الي حظيرة المجتمع الدولي. لعل العامل الأهم في سلاسة هذه المسلك نحو رفع العقوبات عن ليبيا وصعوبتها في حالة السودان، هو عدم وجود لوبي مناهض للتطبيع مع ليبيا في واشنطون أو بقية المدن الأمريكية الأخري، كما لا يوجد اتفاق أو سياسة موحدة للحزبين تسعي لإستمرار العقوبات علي ليبيا، ساعد علي ذلك عدم وجود شبكة منظمات مجتمع مدني وكتل مؤثرة في الكونقرس تعارض هذه الخطوات، وذلك علي عكس حالة السودان، حيث تعارض التطبيع ورفع العقوبات كتل مؤثرة داخل الكونقرس تنتمي للحزبين، وعدد كبير من المنظمات ومجموعات الضغط وكل المنظمات اليهودية التي تساهم في تمويل الحملة ضد السودان، هذا فضلا عن الكنائس ومجموعات اليمين الديني ، وذلك لوجود غبينة سياسية متوارثة منذ حرب الجنوب، وشبهة ايدلوجية تسعي للقضاء علي حكم الإسلاميين في السودان. أما ليبيا القذافي فلم تكن سوي دولة في حالة سيولة تقف علي برميل بارود قابل للإنفجار، و قيادة تعاني من جنون العظمة ،مضطربة السلوك والمزاج وثروات متدفقة تثير شهية الغرب. اشتعل حوار سياسي وفكري بين المحللين والأكاديميين حول دوافع القذافي لتسليم أسلحة الدمار الشامل. وعزا ديك شيني نائب الرئيس بوش ذلك الي أنه من الثمار والنتائج غير المباشرة لغزو العراق، إذ اعلن القذافي رغبته في تسليم أسلحة الدمار بعد أربعة أيام فقط من دخول القوات الأمريكية الي بغداد.ولكن مارتن انديك مساعد وزير الخارجية قال إن قرار القذافي يعود لرغبته في قطف ثمار العولمة الإقتصادية والتحولات الإجتماعية وليس نتيجة لنظرية الصدمة والتأثير.وقالت جولستون المحررة بصحيفة وول استريت جورنال إن السبب المباشر يعود الي نجاح الدبلوماسية والمخابرات في أقناع القذافي بالتخلي عن أسلحة الدمار. والبعض الآخر عزا ذلك الي تأثير الدائرة الضيقة حول القذافي خاصة أبنه سيف الإسلام واصراره علي اتباع برنامج متدرج نحو الإنفتاح والإصلاح السياسي والإقتصادي. وبعد سقوط القذافي قال وزير خارجته الأسبق عبدالرحمن شلقم أنه لعب دورا كبيرا في اقناع القذافي بأفتداء ليبيا للخروج من دائرة العقوبات بدفع تعويضات مالية لضحايا لوكربي وتسليم أسلحة الدمار الشامل. نسبة لهذه الملابسات والإجتماعات التي أجرتها معه وزيرة خارجية واشنطون ، فقد كان القذافي معجبا بكوندليزا رايس، وكشفت مقتنيات باب العزيزية بعد الثورة أنه كان يحتفظ بصور كثيرة مختلفة المقاسات لكوندليزا رايس، وكان يناديها ببنت أفريقيا تحببا. الآن ذهب القذافي الي ذمة التاريخ، وبقيت آثار سياسته علي الأرض حيث تقسمت ليبيا الي قبائل وطوائف ومجموعات متناحرة ومتقاتلة، وترك ثروات منهوبة موزعة علي بنوك العالم، وما يزال الدم الليبي يسيل علي الأرض دون طائل، وتبقي العبرة وهي أنه كيف استطاع أن يقود دولته للخروج من نفق العقوبات وطائلة الإتهامات بالإرهاب الي أن اصبحت ليبيا عضوا مقبولا في المجتمع الدولي بعد عزلة وعقوبات استمرت عقود متطاولة؟. وهل نموذج ليبيا في الخروج من هذه الدائرة يمثل حالة نموذجية للسودان وهو يسعي للخروج من مستنقع العقوبات والعزلة الدولية؟. كانت جنداي فريزر مساعدة وزير الخارجية للشئون الأفريقية كما أوضحت في المقال السابق تقول للمسئولين السودانيين عليكم أتباع النموذج الليبي في نيل رضاء واشنطون والخروج من دائرة العقوبات وقائمة الدول الراعية للإرهاب. ولكن تنتهي المقاربة الي أن القذافي وهو يبدل جلده السياسي من نظام ثوري يرفع شعارات المقاومة ضد الهيمنة الغربية الي نظام مستأنس يخطب ود أمريكا ويقدم تنازلات سياسية مكلفة وباهظة الثمن هو ما أدي إضافة الي تضافر عوامل أخري داخلية الي سقوط نظامه.فالتطبيع مع أمريكا لم يحل دون سقوطه، بل ساهمت أمريكا نفسها في اسقاط نظامه بتوفير ما اسمته القيادة من الخلف ضمن منظومة التحالف الدولي والإقليمي الذي ساعد الثوار علي الإنتصار عليه والقبض عليه حيا. لا أظن أن السودان يستطيع أن يقدم تنازلات جوهرية في مسيرة نهجه السياسي و رهن قراره الوطني الي قوي خارجية كما فعل القذافي في سنواته الأخيرة وكما ظل يفعل حسني مبارك طوال سنوات حكمه مقابل الاحتفاظ بعلاقات متميزة مع أمريكا. فالسودان لا يملك اسلحة دمار شامل يستطيع أن يساوم عليها مقابل تطبيع العلاقات مع واشنطون، وليس في ذمته تعويضات لضحايا مزعومين في الخارج يستطيع دفعها لتقربه الي واشنطون شبرا وباعا. فهذه المقاربة التي دفعت ليبيا ثمنها السياسي والمالي كما قال عبدالرحمن شلقم من أجل أن تشتري ليبيا وضعا جديدا والتخلص من تركة الماضي ولإكمال إعادة ادماجها في المجتمع الدولي، مقابل تسليم أسلحة الدمار وقطع العلاقات مع المنظمات المتهمة بالإرهاب وتعويض ضحايا لوكربي وقبول المسئولية الجنائية والسياسية لحادثة التفجير. لكن كل هذه التنازلات لم تحمي النظام من السقوط، بل زادت من نقاط ضعفه ووسعت من مقاتله وعمقت من رهاناته الخاسرة،لأنه سلخ جلد هويته السياسية من نظام ثوري الي آخر خانع ومستأنس، وقد بدا ذلك واضحا من زيارة القذافي الي السودان مع حسني مبارك يطلبان من الرئيس البشير التنحي، وكذلك في استجابته لضغوط الغربيين وعدم مشاركة الرئيس البشير في قمة سرت، التي كانت آخر قمة يحضرها القذافي ومنها قبض عليه في قناة الصرف الصحي بواسطة الثوار. إن العبرة المستقاة من مقاربة تطبيع نظام القذافي مع الولاياتالمتحدة مقابل أثمان سياسية ومادية باهظة تقود الي نتيجة واحدة وهي أن أي نظام يسعي لتطبيع علاقته مع واشنطون تحت وهم توفير مزيد من الحماية والإستقرار السياسي فهو وهم زائف لأن أمريكا لم تستطع أن تحمي شاه أيران وهو الحليف الأقوي لها في الشرق الأوسط، أو حتي حسني مبارك وهو لم يدخر وسعا في حماية مصالحها في المنطقة، ولم تستطع فرنسا أن تحمي بن علي في تونس عندما قال الشعب كلمته. كما أن تقديم تنازلات جوهرية للخارج وممارسة مزيد من الضغط والتضييق علي الداخل ستقود حتما الي نتائج كارثية كما كشف نموذج القذافي. إن الحكمة تقتضي أن تمنح التنازلات للداخل وتقوية الجبهة الداخلية وتقديم كل الإستحقاقات السياسية التي تتطلبها المرحلة الراهنة ، بدلا عن تقديم تنازلات للقوي الخارجية التي ستنتهي حتما الي اضعاف الداخل ولا تقود الي ارضاء الخارج.فالداخل يكفيه القليل من التنازلات، أما الخارج فلا سقف للتنازل والمساومات، إذ حبوت طلبوا منك المشي ، وإذا مشيت طلبوا منك الهرولة وإذا هرولت طلبوا منك الجري وإذا جريت طلبوا منك أن تسابق الريح وفي كل مرة يسحبوا خط النهاية الي الخلف. والبديل الموضوعي هو تقديم الإستحقاقات السياسية للداخل، ومفاوضة الخارج وأنت تقف علي أرضية صلبة من التأييد الشعبي للتوصل الي تفاهمات موضوعية تنتهي الي رفع العقوبات وانهاء العزلة الدولية والتطبيع مع الولاياتالمتحدة دون ان يكون الثمن هو ما انتهي اليه نظام القذافي، فقد كسب رضاء الغرب وخسر شعبه، والعبرة هي ما تقف عليه ليبيا اليوم من تقاتل وتمزق وتشرذم وهي علي شفا حرب أهلية شاملة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.