أطّلعت فى الأيام الماضية على بيان اتحاد المحامين السودانيين بشأن "مقترح المحاكم المختلطة" الذى ورد ضمن توصيات تقرير لجنة أمبيكى الذى صدر مؤخراًوأقرّه مجلس السلم والأمن الأفريقى. وممّا لاشكّ فيه ان لإتحاد المحامين الحق ( ان لم نقل الواجب) فى ابداء رأيه واصدار البيانات فى كافة المسائل التى تشغل بال الرأى العام فى السودان والمشاركة فى المسائل القومية. وتاريخ المحامين السودانيين منذ الإستقلال يغنينا عن التفصيل فى دورهم البارز فى تشكيل وقيادة الرأى العام خاصةً ابّان الإزمات. وقد قرأت البيان باهتمام كبير ولكن بدهشة أكبر. ومصدر اهتمامى هو عشمى فى أن يُعيننى بيان المحامين ،بخبرتهم ودرايتهم بأمور السياسة والقانون، فى فهم موقف الحكومة الأوّلى من تقرير لجنة أمبيكى ،والذى جاء معمماً مبتسراً ،يوافق على التقرير ويرهن الموافقة على احترام السيادة واستقلال القضاء ويَعِدُ بدراسته ، وفق ما جاء فى بيان السيد نائب رئيس الجمهورية أمام مجلس السلم والأمن الأفريقى فى اجتماعه بأبوجا فى الإسبوع الماضى، وفى قرار مجلس الوزراء عقب اجتماعه فى يوم الخميس الماضى. وكنت آمل أن يُلقى بيان المحامين الضوء على التقرير وتوصياته، وأن يُقدم التوضيحات والتفاصيل والخلفيات لموقف الحكومة، وقد يُضيف التداعيات المتوقعة لما تتخذه الحكومة من قرار بشأن التوصيات. أما مصدر دهشتى فهو متعدد الجوانب. دُهشت أولاً حين رأيت أن البيان نُشر كاعلان مدفوع القيمة فى صفحة كاملة فى عدة صحف ولعدة أيام. وكنت أحسب أن بياناً لإتحاد المحامين حول تقرير لجنة أمبيكى ، أو أى أمر آخر فى نفس درجة الأهمية، هو مما تُفرِد له الصحف ووسائط الإعلام الأخرى صدر صفاحاتها الأولى ورأس نشراتها نسبة لمكانة الإتحاد وتاريخه وثقل رأيه القانونى والسياسى ودوره المتوقع فى اسداء النصح السديد المبنى على الخبرة والمعرفة، ولأنّه بيان صادر عن مجموعة تحترف وتُمثل مهنة القانون، بشأن قضيّة معقّدة لها جوانب قانونية وسياسية وتداعيات جاوزت حدود السودان وأثارت ضجّة لم تهدأ بعد ولغطاً مستمراً ومشاعر غاضبة ولافتات تملأ شوارع الخرطوم. أثار دهشتى أيضاً أن البيان أشار فى فقرته الثانية الى لجنة امبيكى ب"ما يُسمى لجنة حكماء أفريقيا" مُلحِقاً أياها بما ورد فى فقرته الأولى ب"ما يُسمى المحكمة الجنائية الدوليّة"، مُعطياً الإنطباع بأن اللجنة كُونت بواسطة جهة أجنبية معادية ،وفى غياب حكومة السودان ومعارضتها. بينما ان اللجنة ( واسمها الرسمى "لجنة الإتحاد الأفريقى رفيعة المستوى بشأن دارفور") أنشئت بقرار صادر عن مجلس السلم والأمن الأفريقى فى يوليو 2008 ،وأقرّه الإتحاد الإفريقى فى قمّته المنعقدة فى أديس أبابا فى فبراير 2009 بمشاركة السودان وموافقته على القرار. وقد زارت اللجنة السودان عدة مرات واستقبلت أحسن استقبال فى الخرطوم، وطافت دارفور وجلست الى النازحين والمسئولين والعُمد والشراتى ولم نسمع فيها قدْحاً يبرر التشكيك فى حيادها ونزاهة اعضائها مثلما رأينا فى بيان المحامين. ومن المعلوم أن تكوين اللجنة جاء فى نهاية سلسلة طويلة من التطورات على الصعيد المحلّى والأفريقى والدولى بشأن قضية دارفور وكيفية تسويتها وضرورة حماية المدنيين ومحاسبة المتهمين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنسانى وقوانين الحروب. وقد سعت حكومة السودان خلال تداعيات أزمة دارفور لجعل المعالجة أفريقية سواء فيما يختص باستخدام قوات دولية أو محاسبة المتهمين بارتكاب جرائم حرب. وكان شعارها دائماً "افريقيا أقدر على حلّ مشاكلها". فكيف اذن يُورِد البيان اسمها مسبوقاً ب"ما يُسمى" السالبة؟؟ ما أدهشنى أكثر هو الّلغة التى استخدمها البيان/الإعلان، وهى لغة نأت عن لغة المرافعات التى يستخدمها المحامون واقتربت من لغة المظاهرات والمنشورات وصحف الحائط الطلّابية ، ابتداءً من "حرق البخور" و"مستنقع العمالة" و" الأراجيف" فى السطر الأول للبيان، وانتهاءً ب" ولا نامت أعين الجبناء" فى سطره الأخير.وكنت أحسب أن المحامين، بحكم دراستهم وتأهيلهم وتدريبهم وممارستهم للمهنة، أحرص الناس على استخدام لغة رصينة ،وقورة، تبتعد عن التعابير والألفاظ التى قد تصرف القارئ أو المستمع عن تلقّى ما يراد ايصاله من رسائل أو رأى. لذلك دُهشت حين قرأت فى كل سطر من سطور البيان تعابير وألفاظ من مثل "شرذمة"، و"السهام المسمومة"، و"المؤامرات والمخططات" و"الأفكار الخبيثة" و " من المؤسف أن تثمّن لجنة امبيكى مثل هذه الترهات والمعلومات المغلوطة والمواقف والأجندة الخاصّة...”ممّا يصعب معه رؤية ما يُريد الإتحاد تقديمه من حجج وبراهين وآراء، وممّا لا يتسق مع الشكر والتقدير لامبيكى ولجنته والذى ورد فى بيانات الحكومة. بيد أن أكثر ما أدهشنى (وأحزننى فى آن معاً) هو أن البيان/الإعلان، والذى ملأ صفحة كاملة، واحتوى على نحو 2500 كلمة، لم يتطرّق اطلاقاً الى ألمشكلة التى أتت بلجنة امبيكى، وأدّت من قبل ذلك الى تدخّل مجلس السلم والأمن الأفريقى، والقمم الأفريقية المتعاقبة، ومجلس الأمن الأممى ،والمحكمة الجنائية، والى عقد اجتماعات الوساطة فى عواصم عديدة، أى مشكلة دارفور وما صاحبها من معاملة للمدنيين العُزّل والى اتهامات بانتهاكات للقانون الإنسانى وقوانين الحرب وردت فى تقرير دفع الله الحاج يوسف وفى غيره من تحقيقات. ولم يتطرّق البيان/الإعلان أيضاً الى ما يراه الإتحاد من حلول محليّة لمشكلة دارفور وذيولها حتى نتجنب شرّ "الأجندة الخاصة" وتآمر المتأمرين وتربّص المتربصين. كذلك لم نر من الإتحاد، وهو – بحسب البيان- " المناط به وفق الدستور المحافظة على استقلال القضاء وسيادة القانون"، راياً أو احتجاجاً على تأخير تقديم المتهمين لمحاكم وطنية علنية مفتوحة ، ولا زلنا ننتظر منه مثل هذه المساهمة الإيجابية. عوض محمد الحسن