تتخلص الحبوبة من فكرة الموت عبر الانتقام من اللغة فتنطق بما منعه التستر الاجتماعي المزيف.. تغذي عقيدة الخوف عبر عوالم الحكي (الغول – الشكلوته – البعاتي – الدودو..ألخ) هل "الحبوبة" هي المسئولة عن التراجع في الشخصية السودانية؟!.. كل الأسس التي يقوم عليها عالم الحبوبة مأخوذة من التعويذة المقدسة..! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (حجيتكم ما بجيتكم...) أن دورها هو تقليم أظافر الواقع عبر تصدير (الأحاجي) أي القصص الشعبي ببعدها الأسطوري، وأصلها (الأحجية) فتأمل معي هذا الدور القائم على تركيب اللامنطقي في صورة ممكنة ومعقولة، فالأحجية في تعريفها تتطلب تجميع عدة قطع بشكل منطقي لتشكيل شكل معين أو صورة (تشكيل الذهنية والوجدان).. وتستخدم الأحاجي عادة كنوع من أنواع التسلية راجع: الموسوعة الحرة – ويكيبيديا – (وحجيتكم..) هذه وعلى الرِتم ذاته يتوالى فيها نزول الطلاسم والتي يبدو أن مصدرها واحد، فلو عقدت مقارنة مع فلسفة الحكي الشعبي عبر أفواه ممثليه وفي بلاد عربية كثيرة ستجد صلة ما بين كل ما يقال.. بل لعلنا سنجدها في نسخة متأخرة من الحضارة الأوروبية، ذلك حينما كانت الأسرة واحدة من وحدات النسق الاجتماعي في عالم ما قبل الأنوار والحداثة، ولدينا هنا لا نعدم أن نشاهد ومرات عديدة من يصرح مثقفاً أم سياسياً متثاقفاً أو حتى إعلامياً تلفزيونياً يطل علينا في واحدة البرامج التفاعلية كثيرة العدد قليلة الأثر، أن يصرحوا بنبرة ملؤها الحسرة والأسى، بالقول المشخص لحالة التفكك الثقافي التي اعترت أبناء هذا الجيل، أن السبب يعود إلى فقدانهم حالة فريدة كانت تمنح الذاكرة انتعاشها وتربط بالقيم المحفوظة بين الأجداد والأبناء والأحفاد، شخصية مرموقة في الذاكرة الجمعية، تتخذ من مجلسها منبراً حُكمياً وفلسفياً توزع فيه الدفء والحكايا، تتسيد الموقع فلا يتحدث أحد إلا بأمرها أو أن تصمت، محط إجلال وموطن تحية دائمة التقدير، وفي تدابير حكايتها يطل الجد الأكبر بقيمه وتأسيساته، ويُرغم القادمون جميعاً على تمشيط درب الجد المؤسس، وفي ذلك لا علاقة للزمن بالتاريخ أو المعنى، إنها "الحبوبة" المسئولة عن تمرير التراجع في الشخصية السودانية.. إن القيم تتسرب بخفة في المجتمعات الباردة، والتي نعني بها المجتمعات الموصولة بحبل من العرفان والغنوص عميق، أي أنها تتلقى معارفها ليس عبر التجربة والاختبار أو المزاولة وإنما باتباع التاريخ خطياً، فهي تزاوج بين واقعها ومماثلات له في الماضي، حتى أننا ودون انتباه نستخدم عبارة (قِّس على ذلك) التي نبهنا إليها الدكتور محمد عابد الجابري، وذلك المعني هنا هو (الماضي، أو كما جرى استخلاصه سابقاً) فهذه العبارة (قِّس) تعبير حقيقي ودقيق عن أزمة القيم التي تصيب مجتمعاتنا المملوكة بالمطلق للماضي، فهي لا تملك قياسها الخاص؛ قياسها المنتمي إلى حقلها الاجتماعي بكافة أشكاله، ولأنها لا تعيش في الواقع فقد عجزت عن إنشاء قياس صالح يمكنها من فهم العالم الذي تعيش فيه، ولتوارى خيبتها تستلف قياس الماضي لتسقطه على الحاضر، وبالتالي لا ينتج قياس بهذا الشكل إلا صوراً مشوهة عن المجتمع وقيمه، فتخيل معي كيف يسعك أن تستخدم آليات عقلية لها شواهدها ورموزها وعوالمها لم تعش فيها ولا صلة لواقعك بها، مثل الشخص الذي يريد أن يحل مسألة حسابية معقدة وهو يملك عقل راعي غنم جذره في الصحراء ولا لغة له غير اللغة الحسية؟ فهل كان بإمكان الجاحظ أن يناقش قضية الاجهاض مثلاً؟ أو وسع المتنبي أن يقدم حلولاً لمسألة تضييق الحريات في المجتمعات العربية؟ أشك في ذلك تماماً.. فالذي أنشأ قياس الماضي ينتمي لمجتمعه وقضاياه، ونحن ننتمي لليوم ووجب أن نملك قياسنا الخاص.. فكما أن للقيم قوى تدبرها فلها كذلك ممثلون وناطقون بسرها وجواهرها، وهذا هو منطق الأسطورة، تخييلي ولا-زمني ولا يمت للسببية بصلة، فالأساطير لا تعيش وتُعمر في الذاكرة إلا لكونها تمتلك رموز وعلامات وأسئلة، ومن أكثر العلامات تألقاً في بيئتنا العربية الإسلامية هي (الحبوبة = الجدة) فهي المالكة لزمام التأثير على اللاوعي في مؤسستنا الاجتماعية، إذ أن دربتها فائفة في التغول إلى داخل الحالة بما تملك ، وندين لها بكامل ذخيرتنا من تصورات ورؤى اليوم التي هي في حقيقتها تماثل لسابقة اجتماعية وثقافية، أي أننا ندين لها بعملية تأسيس افتراضية واسعة ومُفسحة إن لم تكن تستولي على كل ما يجد في المعنى الاجتماعي، فالحبوبة مؤسسة بالمعنى العلمي. إن الثقافة العربية مشرقية بل ومغربية كذلك تحتل فيها (الحبوبة) وحكاويها المكان الأرحب، فمسار التغذية العُرفية التي تتولى فيها الحبوبة مسئولية تأسيس الناشئة ، فإنها تفعل ذلك عبر ما يمكن تسميته ب(تعليم المقهورين) تمشياً مع نظرية التعليمي البرازيلي باولو فريري صاحب كتاب (تعليم المقهورين) والذي يرى فيه أن التعليم يمكن له أن يكون أداة قهر فاعلة طالما أنه لا يُعترف فيه بفكرة الحوار كأساس للمعرفة، ويسمي نظريته بالدعوة إلى (التعليم الحواري) ضد ما يصفه ب(التعليم البنكي) ذلك الذي يستند على ايداع المعرفة هكذا مغلقة، وغير متفاعلة مع الزمن في قلوب ووجدان متلقيها، وهذا هو دور "الحبوبة" بامتياز فهي تستودع ما تملكه حقاً كان أم باطلاً مفيداً أم مؤذياً في روع أحفادها، وتفعل ذلك بسلطة متعالية جداً جوهرها التقدير والمحبة لمن تبقى من زمن مضى فيه كانت الحبوبة تجلس مثلهم تتلقى تعاويذ مقدسة وتتلو فيه صحفاً لا تفقه فيها لغة ولا معنى، لكنها مشدودة إلى عوالم غريبة وتحتوى متعة الوجود عبر التجسيد والحلول. وهنا فالآلية المستخدمة في ذلك هي "الحكايا" والتي هي الأشخاص والأحداث منزوع منهما عامل الزمان! فالحكاية تملك قدرة سّرابة داخل الوعي والوجدان من ضمنها أن السطوة المخزونة في إطار الحكاية يُشكِلُ على متلقيها أن ينافح أو أن يقدم أية أسئلة فهو فقط مأخوذ بالدهشة ومملوكُ بالعجب والتساؤل، فالحبوبة حكّاية بشكل اسطوري، حتى أن مجلسها مؤسس على قاعدة تشبه المنبر (عادة أصغر سرير يسمى عنقريب منسوج بخيوط متينة لكنها خشنة) ويتحلق حول هذا المنبر صغار أجسادهم نحيلة وعيونهم مُستفزة كأنها تعبر عن شوق كامن في القلب لمغادرة هذا المجلس يوماً ما، ولكن ليلعبوا الدور ذاته مع بعض إضافات سببها إلزامية الزمن والتاريخ، والغريب فعلاً أن الأنثى هي من تستلم راية التخدير بالحكايا، والسبب يعود إلى النظام الأمومي في ثقافتنا السودانية التي لم تزل عناصر بدائيتها كامنة ومستفحلة في بعض الأحيان، تمظهراتها موجودة في جوانب كثيرة، وإن كان الجد يمارس صورة أخرى من الحكمة، فنجده عادة يقص على أحفاده قصص تتعلق بالواقع أكثر منه بالخيال، مثلاً أنه عندما كان في سنهم كان ولداً متعباً لأبويه يقدس عادة اللعب وفي سبيلها لا يتورع عن فعل أي شيء، وكيف أن والده كان يؤدبه لتقصيره في الدرس والتحصيل، ومن هنا تكتسب حكاية الجد بعداً واقعياً لا يمت للسحرية بشئ، عكس وجود "الحبوبة" فهي ممسكة بقوائم الرمز تدفع بها صغارها المتكومين عند قدميها كل يأخذ موقعه بعناية، فالأحفاد من الأولاد يتصدرون المجلس، وتتوارى الفتيات بسبب من تقزيم دورهن في تلكم اللحظة رغم أنهن المعنيات بأداء هذا الدور في المستقبل القريب. إن جملة عوالم الحكي عند "الحبوبة" يحكمها إعادة تجسيد الأرواح الشريرة (الغول – الشكلوته – البعاتي – الدودو..ألخ) والطيبة (الشاطر حسن والأبطال من كل شكل ولون..) وهي بذلك تعيد تلحيم الواقع الجديد في عمق التخيل، أي أنها تمارس حيلاً لتحقيق اللذة عبر الخيال عند سامعيها ومثل هذه الحيل تكون بمثابة وسيلة دفاع من الحرمان الآتي لها بفعل الموت، فهي لا تموت بل تصر على البقاء في الأجيال اللاحقة ولعله خلود بايولوجي تظل فيه "الحبوبة" حية وحاضرة في الأبناء والأحفاد وعابرة من جيل إلى جيل دون اعتبار لفكرة الزمن، كما أن وجودها يجعل الأوهام الهاربة من زمن سابق، يجعلها واقعية للغاية، ولعل المؤكد في واقعيتها أن الأوهام هي أسباب اجتماعية حتمية تتسلل بخفة في المجتمعات البدائية. إن "الحبوبة" تعمل بمثابة ناقل حيوي للتراث الروحي لأمة مثل أمتنا العربية تجعل ذلك ممكناً عبر آلية المشافهة، أليست الحبوبة حافظة للتراث الشفاهي بل ومشاركة في صناعته؟ إن العادات الشعبية تظل حية ومستمرة بفعل أدوار تقدمها الحبوبة ببراعة شديدة، فلكي نفهم مجتمع علينا دراسة عاداته وسلوك أفراده، لأن الحكاية الشعبية هي المظهر الكلي لمنظومة القيم التي تخص مجتمع وتميزه عن الآخر، ولا مجال هنا لإدعاء لانسبية القيم، فالقيم الاجتماعية نسبية ولا وجود لنموذج ثقافي هو هو في أي مجتمع وعند أي تجمع بشري. إنها وبخبرتها الطويلة ومعاركها مع الزمن الذي ارتسم على ملامحها عنف مستحب وحضور آسر، فكم تعنفنا ونحن لها في متعة من سوق قيمها وبضاعته، توزع العبارات الكامنة في زيف تأدبها سابقاً توزعها بلذة وشهوة غريزية أن تفرغ مخزونها من التلطف والتجمل على كل من يسمع، فقد بلغت ما أخبرنا به سبحانه وتعالى في الآية (60) من سورة النور (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) ولما تملكه من ترخص في قول ما تشاء وفعلها لا جناح عليه، فهي هنا تنتقم من شروط الاجتماع البشري باستخدام مخزون لفظي نتعالى ونسميه وقح، انه الانتقام من اللغة. ستظل الحبوبة نموذج حيوي يصلح لدراسته كوحدة كلية تملك هيكلها الخاص، ألا تحتفظ الحبوبة بلسان خاص ولغة مرمزة تعطي للحكاية معنى مختلف وحضور خالد؟ (كانت حبوبتي عليها الرحمة عند انقطاع التيار الكهربائي تتعمد تخويفي عبر قصة "أم بعلو" وكيف يصطاد فرائسه في الظلام بشكل همجي ودموي - وللأمانة كنت أخاف، وأخاف جداً – حتى أنني اختبئ في حضنها رغم ظني أنها "أم بعلو" مجسدة..). رحم الله حبوبتي وحبوباتكم جميعاً وأسكنهم فسيح جناته.. آمين.