اشتدّ منذ أواخر العام الماضي (2024) حصار قوات الجنرال المنشقّ محمد حمدان دقلو (حميدتي) على مدينة الفاشر، التي تحظى بأهمية استراتيجية لوقوعها في خاصرة إقليم دارفور، غرب السودان، الذي يسيطر المتمرّدون على أغلب مساحته. تعاني المدينة من النقص الحاد في المواد الغذائية، وهو ما تسبّب في حدوث مجاعة ووفاة أعداد من المواطنين، لكن هذا ليس كل شيء، حيث ظلّت هدفاً للمقذوفات، التي لا تكاد تتوقّف، والتي لا تتوجّه فقط نحو المنطقة العسكرية، التي تضم جنوداً يفعلون ما في وسعهم لصدّ هجمات المتمرّدين الراغبين في السيطرة على المدينة، وإنما يشمل كل المرافق العامة. القصص، التي يتمكّن السكّان المحليون من نقلها، تصوّر المدينة بشكل بائس، فالهجمات المتكرّرة ومحاولات التطويق العسكري لم تترك الكثير من المباني السليمة في المدينة، التي باتت تفتقر لمنشآت مدنية أساسية كالمستشفيات. القصف المتكرّر مع عدم وجود إمكانية لإجلاء المصابين بسبب انقطاع خطوط الإمداد، وبعد أقرب المراكز الواقعة تحت سيطرة الجيش عن المنطقة كان يزيد من أعداد الضحايا، سواء كانوا من ضحايا القصف أو من غيرهم من المرضى، الذين كانوا يحتاجون تدخّلاً طبيّاً. كانت المقاربة الدولية تقول إنه يجب الفصل بين المدني والعسكري عبر فكّ الحصار بشكل عاجل. ذلك كان محتوى القرارات الدولية، التي تحوّلت إلى مناشدات، لكن التي لم تستطع تغيير أي شيء على الأرض، فلا ذلك "المجتمع الدولي" القلق على الحالة الإنسانية دعم الحكومة في الخرطوم من أجل فرض سيطرتها على المدينة ودحر المتمرّدين من أجل أن تستطيع القيام بمهامها، ولا حميدتي، الذي أظهر، في البداية، رغبة في فك الحصار، كان جادّاً في هذا. يمتلك حميدتي الخبرة الكافية، التي تجعله يفهم أن ذلك الحصار غير الإنساني يسيء للصورة التي يحاول أن يرسمها لنفسه زعيماً مستقبليّاً مقبولاً، لكنه يعتبر، في الوقت نفسه، أن التسامح في دخول الأغذية والمعدّات المدينة يعني، بالضرورة، وصولها إلى عساكر الجيش، الذين سيتقوون بها أكثر على حربه، لذلك هو يفضّل حرمان الجميع. بالتأكيد، حين نتحدّث عن حميدتي لا نتحدث عنه بشكل شخصي، وهو الجنرال، الذي لم ينل أي تدريب عسكري عالٍ ولم يلتحق بأي مدرسة، وإنما نتحدّث عمن يقف وراءه ومن لهم مصلحة في دعمه وتصديره، والذين لولاهم لما تمكّن من النجاة وخوض هذه المعارك العسكرية والدبلوماسية والإعلامية المتزامنة، التي تتطلّب مهنية ومهارة. بالنسبة لحميدتي، الحصول على الفاشر يعني امتلاكه كل إقليم دارفور، ما يقوّي موقفه ويحقق له سلطة على الجزء الغربي من البلاد لا يعني هذا، في أي حال، الاتفاق مع الرأي، الذي يجرى ترويجه، أن حميدتي وجنوده هم مجرّد أدوات بأيدي قوى إقليمية ودولية، وجرى استغلال بساطتهم لتوظيفهم ضمن مخطط كبير. المشكلة في هذا الرأي أنه يسعى إلى تبرئة مجرمين ومرتكبي جرائم بشعة بحجّة أنهم لم يكونوا يملكون من أمرهم شيئاً، فالحقيقة أن ذلك المخطط، إن وجد، التقى مع رغباتٍ وتطلعاتٍ لنخبة ولأفراد، ما جعل الأمر شراكة أكثر من كونه استغلال طرفٍ شرّير لسذاجة طرف آخر بسيط. المهم أن عقل حميدتي، أو من يفكّر له، تفتق عن فكرة مهمّة، وهي الإعلان عن فرصة خروج من المدينة عبر مسار آمن. سيتم تحديد هذا المسار بعد اكتمال السيطرة على جميع المخارج، وهكذا يمكن أن يجد المدنيون بديلاً عن البقاء في ظل الحصار. وقد ولّد هذا مشكلة أخرى، أن مليشيا حميدتي سوف تراقب عن كثب كل الخارجين. نظرياً سيكون الغرض معرفة ما إذا كان من بينهم عسكريون. في الحقيقة، الأمر واسع، حيث يقود مجرّد الاشتباه بك إلى قتلك أو تعذيبك، وهو ما يحوّل محاولة الخروج، التي برزت كطوق نجاة، إلى مخاطرة لا تقلّ عن مخاطرة البقاء داخل المدينة، خصوصاً أن هويتك العرقية وانتماءك القبلي قد يكونا كافيين لأن تصنّف مناصراً للجيش. لمدينة الفاشر أهمية تاريخية كونها كانت عاصمة لسلطنة الفور القديمة، وهو ما يمنحها رمزية خاصة، لكن هذا السبب ليس الوحيد، الذي يدفع إلى الحرص عليها، فبالنسبة لحميدتي، الذي نصّب نفسه قبل أيام زعيماً لدولة سودانية موازية، فإن الحصول على المدينة يعني امتلاكه كل إقليم دارفور، ما يقوّي موقفه ويحقق له سلطة على الجزء الغربي من البلاد. وبالنسبة للخرطوم، الانتصار في الفاشر مهم لأسبابٍ من أهمها قطع الطريق على حلم حميدتي، وإعادة الثقة بوحدة السودان، بعد أن بدأ كثيرون يحسّون بالإحباط ويتحدّثون عن الانقسام أمراً واقعاً. السبب الثاني طمأنة الحركات المسلحة الدارفورية، التي تقاتل إلى جانب الجيش بشأن صمود ذلك التحالف وخدمته لمصالحها، وإن كان هناك تساؤل مشروع هنا عن سبب إحجام هذه الحركات، التي حصلت على أموالٍ عديدة وعتادٍ متقدّم من ميزانية الدولة، عن الدخول بجدّية في المعارك. يعتبر بعضهم أن المشاركة يجب أن يقع عبئها على الجميع، لأن هذه المدينة ملك لجميع السودانيين، وهذا صحيح، لكن مشاركة أصحاب الأرض والمكان تعد فارقة، وقد لوحظ هذا حينما اندفع آلاف من أقاليم الوسط لمساندة الجيش في سبيل تحرير أرضهم. سقوط الفاشر في يد حميدتي، الذي تمتلك قواته خطوط إمداد مفتوحة وقدرة على تبديل المقاتلين وإجلاء من أصيب منهم، خطير، لأنه سيجعل تحالف الجيش مع الحركات المسلحة الدارفورية، التي تتمتّع بمناصب ومواقع قيادية نظيراً لذلك، بلا أهمية، ما قد يقود إلى انهياره. الأسوأ أن يقود ذلك المليشيا لارتكاب انتهاكاتٍ كثيرة ضد آلاف العسكريين، الذين صمدوا في وجهها وأحبطوا محاولاتها في الفترة الماضية، ولكن أيضاً ضد من سيبقى من السكان المدنيين، وهو أمرٌ واردٌ قياساً على ممارسات سابقة ارتبطت فيها سيطرة المليشيا بأعمال قتل واغتصاب وحشية.