عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. بقلم: د. طبيب عبدالمنعم عبدالمحمود العربي - السويد للزمن الجميل وقع وإيقاع في نفوس الذين عاشوه وزماننا الذي عشناه في الستينيات والسبعينيات كان جميلاً بوجود أسرة سودانية واحدة متماسكة بدءاً من البيت الصغير أو القرية أو المدينة بل حتي في البادية تجمعها وتوحدها طيبة القلوب وعفوية الخاطر وصدق العمل والتكافل والنزاهة تحت مظلة وطن واحد كبير آمن إسمه السودان. لا أنسي أبداً روعة السودانيين وأنا كنت أحب الأسفار في مراحلي الدراسية الأولي من متوسطة وثانوية فكم وجدت من ترحاب وراحة في الشمال البيعيد أو الغرب القصي المضياف أو الثغر البشوش المتحضر أو الخرطوم الوادعة الراقية أو الجزيرة الخضراء بيضاء السريرة ولا أنسي ذكر مسقط رأسي في "التوأمات" بربر وعطبرة حيث كانتا قريتين من بندر متحضر وتضمان مختلف ألوان الطيف من أبناء وقبائل السودان المختلفة. لا يعني ذلك أن الناس كانوا نسبياً لا يعانون من بعض صعوبات الحياة ولا يعني أن الأنظمة الحاكمة كانت كاملة والسياسات من غير خلل ونظيفة كالثوب الأبيض فالكمال للله وحده لكن برغم ذلك لم يعهد السودان فساداً أخلاقياً ومادياً وتفرقاً إثنياً وجغرافياً وتفلتاً أمنياً كالذي يحدث الآن في هذه السنين العجاف أعجبني ذلك الفيديو "إخراج معتز أحمد" الذي يصور رحلة خيالية قمنا بها صغاراً كل الأطفال سياحة شيقة في بلاد السودان المختلفة في القولد "بيت صديق عبدالرحيم" وريرة والجفيل ويامبيو البعيدة فكم سعدنا بها في طفولتنا تلك رغم بساطتها وشح الإمكانيات لكن كان أهلنا إذا صح أن أنعت أغلبيتهم بفقراء الجيوب ففي الحقيقة كانوا شامخون وجباههم عالية في عنان السماء أغنياء بعقولهم وكنا نحن الأطفال كذلك ونتمتع بخيال خصب وذكاء لا يباري يحدونا الأمل الكبير خاصة مع ترديد نشيد الأماني العذبة " يا إلاهي يا إلاهي يا مجيب الدعوات أعني في دروسي وأداء الواجبات واجعل التوفيق حظي ونصيبي في الحياة .....إلخ". أكرمني الله وآخرين كثر من أبناء هذا السودان الحبيب بالعيش ردحاً من الزمن في بلاد "طيرها أعجمي، حسب فهم أهلنا" حباها الله بالخيرات الكثيرة وبعقول تجيد التفكير والتنظيم والصدق في إدارة تلك البلاد الأوربية وغيرها المتعددة الأعراق والعادات لكنها تتفق (وإن إختلفت قليلاً في لون بعض الأمور ) في الإلتزام بنظام "شوري" ديمقراطي المنهج في إدارة شؤونها ولا تعتمد علي الخبرة فقط كأساس بل علي أهمية وتطبيق البحث العلمي والمراجعة الدورية في كل منحي مهما صغر أو كبر لا فرق. لا يتم تعيين شخص ما في وظيفة لأنه إبن فلان أو من الأسرة أو القبيلة الفلانية أو ممثلاً للولاية الفلانية إرضاءاً لأهلها بل كل الناس محترمون وأمرهم شوري في سياستهم ولا يأتي مسؤل في إدارة أو وزارة أو رئيس ما لدولة ليفاجئ القوم في ليلة وضحاها بأنه قرر كذا وكذا من غير إستفتاء المواطنين أو ممثليهم في المجالس المحلية أو البرلمانات . سأذكر لكما أيها القاريء والقارئ المحترمين فقط وبإختصار تجربتين عشتهما هنا في بريطانيا أوردهما كمثال لكيفية منهج اتخاذ القرار في البلاد الديموقراطية. التجربة الأولي: في بداية سنيني إستأجرت شقة صغيرة في شمال لندن جوار نفق محطة ميدستون. كان وقوف السيارات سهلاً ومن غير دفع أجرة علي شوارع ذلك الحي طيلة الأربعة والعشرين ساعة. لذلك كانت الشوارع تكتظ بالسيارات خلال النهار حيث كان بعض الذين يعملون داخل قلب لندن يحاولون تفادي دفع أجرة الإزدحام المُضافة زائداً علي أجرة أمكنة الوقوف المكلفة في قلب لندن وتفادياً كذلك للازدحام وبطء الحركة. جاءتني رسالة بريدية بإسمي مثل السكان الآخرين وفيها خطاب شخصي ومرفق معه كتيب إستفتاء "Questioaire "مكون من عشرين صفحة. قالوا في الرسالة إن سكان الحي قد تضرروا من كثرة السيارات التي تحتل الشوارع طيلة النهار حتي أن أحد السكان قد لا يجد مكاناً لإيقاف سيارته مرة أخري عند عودته إذا غادر المنطقة أثناء الصباح لقضاء مهمة ما خارج المنطقة . الكتيب يوضح علي الخارطة كل الشوارع المعنية المتضررة. كان من ضمن الأسئلة الكثيرة التي استغرقت الإجابة عليها خمسة وثلاثين دقيقة سؤال ذو عدة إختيارات عن مقترح الحل الذي سيوافق عليه حسب نتيجة الإستفتاء غالبية السكان. علي كل ساكن إختيار الحل الأمثل في الدرجة الأولي وحلاً آخراً إذا لم يحصل إقتراحه الأول علي أغلبية. أجبت علي كل الأسئلة وبعثت الرسالة إلي مصدرها في البلدية. بعد ثلاثة أشهر أرسلت إلينا رسالة جديدة عن نفس الموضوع تبدأ بالشكر علي الإهتمام والتعاون الذي وجدوه من خلال ردود السكان لكنهم تلك المرة قاموا بتعديل الأسئلة بناءاً علي إعتمادهم كل المقترحات وإجابات السكان في كل المسائل المتعلقة مثل عدد أفراد الأسرة وعدد سيارات كل بيت ....إلخ. ثم ماذا حصل ؟. بعد اكتمال تسعة أشهر إتخذ قرار البلدية النهائي بجعل ترخيص وقوف السيارات في الشوارع للسكان في المقام الأول وتخصيص أماكن معينة لغير السكان خلال النهار لكن لفترات قصيرة وبدفع أجرة معينة. الملاحظ هنا أن الناس تتقبل القرارات بصدر رحب وتنفذها التجربة الثانية: مماثلة بعض الشيء للتجربة أعلاه مع قليل من الإختلاف. كان د.ياسر إبن أخي يسكن في مدينة لا تبعد أكثر من ساعة عن لندن. توجد بها خضرة وبحيرات وأراضي زراعية واسعة ومنطقة غابة ونباتات برية. تعادل مساحة غابة السنط في الخرطوم. نسبة لحاجة المدينة لمزيد من الإمتدادات السكنية صارت البلدية تشجع أصحاب المزارع لبيع أراضيهم ليتم تحويلها إلي مباني حديثة وبالطبع في ذلك أرباح كثيرة تعود إليهم. لكن تطاول الأمر إلي التفكير في تحويل منطقة الغابة نفسها إلي سكنية وعلية "قامت الدنيا وقعدت" كما يقول أهلنا عندما يصفون قوة الإحتجاج أو هول كارثة ما. فوزعت أوراق الإحتجاج من نشطاء أنصار البيئة والمناخ علي كل البيوت وطلب من السكان التوقيع علي مناهضة الفكرة ورفضها رفضاً باتاً بل المطالبة بأن تكون تلك الغابة "محمية طبيعية" إلي الأبد ذلك لأنها مرتعاً آمناً لحيوانات برية وطيور قاطنة وعابرة بل حتي لحشرات ونباتات صغيرة وزهور برية يجب المحافظة عليها من الإنقراض إضافة إلي أن المنطقة بمساحاتها وبحيرتها يجد فيها الناس وحيواناتهم الصغيرة متنفساً للمشي والرياضة وراحة النفس. كانت النتيجة نجاح النشطاء من المواطنين في مسعاهم وظلت المنطقة مفتوحة لكل الشعوب سواءاً من المدينة نفسها أو غيرها ودخولها بالمجان بعد أن تم تحديثها وتطويرها لكي تكون أكثر من صورة جميلة سياحية في مظهرها ومعناها تحسري والله علي النهاية المحزنة لمحطة قطار الخرطوم ( العاصمة) وحديقة وبوفيه مقرن النيلين وأماكن أخري كان ممكن تظل سياحية أو تراث تاريخي يجب الحفاظ عليه مثلاً سوق اللحوم والخضار الذي كان في سنتر الخرطوم وكذلك مقهي المحطة الوسطي ، فمقرن النيلين للأسف الشديد قد تحولت في عهد حكم الرئيس الراحل النميري ولا تزال إلي غابة من ماكينات الحديد القبيحة التي تشبه رؤس الشياطين ليلعب فيها فقط شريحة صغيرة محدودة من الأطفال . لست أدري من هو ذاك العقل المدبر وراء كل ذلك التخريب. هذه منطقة جميلة و سياحية لا يوجد مثلها في العالم إن كانت قد وجدت العقل الراجح والفنان المتحضر الذي يحيلها إلي جنة عدن في الأرض تستفيد منها كل الشعوب وتكون جاذبة أيضاً كمصدر دخل مضمون من السياحة الداخلية والعالمية. أرجوا أن أري قريباً إستفتاءاً يتم بشأن وضع منطقة المقرن لتطويرها وفتحها وأن تُكَٓوَنْ لجنة من الفنانين والمعماريين والمهندسين والشعراء والأطباء والمعلمين والإقتصاديين والزراعيين وأخصائيي البيئة والتراث الشعبي والنفسانيين لكي يتدارسوا وضعها الحالي والمستقبل من أجل الخروج بفكرة تنقذ تلك المنطقة بمشروع يجعلها قبلة أنظار العالم أجمع. ليس ذلك ببعيد علي الله إن صفت النيات وطهرت القلوب وصدقت وخافت حساب يوم لا يفلت صغيرة ولا كبيرة إلا قد أحصاها. تطوير المقرن وتحويله إلي منطقة سياحية عالمية يحتاج إلي طرح مسابقة عالمية تستقطب بيوت خبرة من الشركات العالمية المعروفة مثلاً وخاصة في ألمانياوالسويد وفرنسا وإنجلترا والله يعلم ما وراء المقصد د. عبدالمنعم عبدالمحمود العربي عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.