قبائل وأحزاب سياسية خسرت بإتباع مشروع آل دقلو    النصر الشعديناب يعيد قيد أبرز نجومه ويدعم صفوفه استعداداً للموسم الجديد بالدامر    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    ريجي كامب وتهئية العوامل النفسية والمعنوية لمعركة الجاموس…    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    فاجعة في السودان    ما حقيقة وصول الميليشيا محيط القيادة العامة بالفاشر؟..مصدر عسكري يوضّح    "المصباح" يكشف عن تطوّر مثير بشأن قيادات الميليشيا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخارجية: رئيس الوزراء يعود للبلاد بعد تجاوز وعكة صحية خلال زيارته للسعودية    الأمر لا يتعلق بالإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يستقبل رئيس وزراء السودان في الرياض    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خَواطِر عن عقد التَمكيْن .. بقلم: جَمَال مُحمّد إبراهيْم
نشر في سودانيل يوم 18 - 09 - 2015

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
(1)
الخرطوم، أواسط سنوات التسعينات..
كنّا عدداً من موظفي الحكومة في الدرجات الوسيطة أو العليا، ممن ضمتنا دفعة التدريب على الدفاع الشعبي، في معسكر مفتوح أقيم في ملاعب جامعة الخرطوم. ولأني أعاني من غضروف مزمن ، منذ سنوات ، فقد تقدمت لاعفائي عن التمارين العضلية العنيفة، والاكتفاء بالمشاركة الشكلية، فيمادون ذلك من التمرينات. يشرف على التدريب العسكري جنود من ذوي الخبرة العسكرية العالية، وعلى رأس المعسكر ضابط شاب عمره في حدود الثلاثين،أو أكثر بقليل. في دفعة الدفاع الشعبي تلك، كان معي صديقي السفير د.حيدر حسن حاج الصديق، نجم الرياضة المعروف ب"علي قاقارين"، وأيضاً وكيل الحكم المحلي صديقي "علي جريقندي"، ونائب وكيل وزارة الصناعةوقتذاك، الأخ "المدني" وغيرهم. هذه أسماء معروفة والتوقع أن تكون المعاملةبقدرٍ من الاحترام، لا التعالي والاستفزاز المذل.
يبدو أن جلوسنا خارج صفوف التدريب لساعات طويلة ، أغاظ ذلك الضابط الشاب ، فقرر استدعاء كل الذين قرر الطبيب المسئول بالمعسكر،إعفاءهم من التدريب العضلي العنيف، وخاطبنا ذلك الضابط الشاب مستفسراً ، بلهجة ساخرة : - أنتم "الخسائر" إذاً. . !؟
(2)
كان سؤاله استفزازياً ، خاصة وأن معظم المتدربين "الخسائر" المشار إليهم، هم من كبار موظفي الحكومة ، وليس فيهم من سنه دون الأربعين ، أو من قلّت درجته الوظيفية عن المجموعة الخامسة، وهي درجة وسيطة، وتمهّد للترقي للوظائف القيادية العليا. لم يتراجع الضابط الثلاثيني المشرف على كتيبتنا ، عن توجيه أوامره لنا بالوقوف "انتباه" ، شرع بعدها يسأل كل واحد عن وظيفته. زميلنا، ضمن جماعة "الخسائر"، مدير فرع لبنك النيلين ، ولنسمه "لطفي". كان الرجل يشكو دائماً من مضاعفات مرض السكري، فطلب ذلك اليوم، إذناًبالخروج من "الطابور" والجلوس ليرتاح قليلا. هبّ الضابط الشاب وصرخ في وجهه:
- عجيب.. ألم تكن تقف دائماً على "كاونتر" البنك، وتحسب النقود لعملاء مصرفك.. فكيف تشكو الآن من الوقوف. .؟
ردّ الرجل بهدوء:
- أنا لا أعمل على الكاونتر، في هذه السن. أنا مدير فرع البنكفي مدينة "بحري". . !
في الحقيقة أن صديقنا "لطفي" يكبر ذلك الضابط الشاب، بأكثر من خمسة عشر عاما، وتوقع اعتذاراً من طرفه، لكنه تأبّى، فكان الأمر مدعاة لامتعاضنا جميعاً.
إن توقير كبار السن- في كل الأحوال- قيمة من القيم التي عرفتها مجتمعاتنا، يحضّنا عليها الدين، وتعزّزها التقاليد، وترسخها الأعراف. لا. . ليس مقبولا أن يقترن معسكر الدفاع الشعبي بإهدار قيمة احترام جيل من كبار السن. ذلك يناقض ثقافتنا الدينية والاجتماعية، ويحدث ثقوباً في ثوب التقاليد الايجابية الراسخة. .
(3)
لا نرمي للتشكيك في العقيدة القتالية، وإنما نعرض لأساليبٍ، قد لا تتسق مع تلك العقيدة. ثمّة فلسفة وراء تدريب قيادات الخدمة المدنية، الوسيطة والعليا، على بعض أبجديات الانضباط العسكري، مثلها مثل أيّ خدمة وطنية، تؤهّل الناس ليشكلوا "جيشاً إحتياطياً"، يساند الجيش الرسمي عند الملمّات. كانت الحرب مستعرة بين القوات المسلحة وقوات الحركة الشعبية المتمردة في جنوب السودان، أول سنوات التسعينات في القرن الماضي. لم تكن الملمّاتهي مقاتلة الحركة الشعبية في تلكم السنوات، بل المقصود بلا مواربة، هو مقاتلة الاستكبار، في الشرق أو في الغرب، وذلك ما أثار حفيظة الغرباء واتهموا النظام الجديد في السودان، الذي حكم السودان بدءاً ب يونيو 1989،أنه ينوي تقويض الاستقرار في الإقليم وفي المنطقة برمتها.
ومثلما كان نشيد "المارسيليز" يزيد حماس المقاومة الفرنسية للغزو النازي لبلادهم في الحرب العالمية الثانية، فقد جرى اعتماد أناشيد حماسية، شاعت في الشارع السوداني، بقليل تحوير، قصد منها أن تشكل جزءاً من العقيدة السياسية/ القتالية، لشعب أعدوه لمجابهة عدوٍّ متوهّم هنا وهناك، في "أمريكا" وفي "روسيا":
أمريكا وروسيا قد دنا عذابُها
علَّي إن لاقيتها ضرابُها
وأصل الأهزوجة، أنها ممّا ردّد عبدالله بن رواحة في موقعة مؤتة، قبل ثمانية قرون هجرية:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا
طَيِّبَةٌ بَارِدَةٌ شَرَابُهَا
وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا
عَلَيَّ إِنْ لاقَيْتُهَا ضِرَابُهَا
كان مطلوباً منا في ذلك المعسكر- وبعضنا من المختصّين بعلاقات البلاد الخارجية- أن نردّد : أن أمريكا وروسيا قد دنا عذابها. . !
( 4)
تتبع البلدان الرشيدة، نظماً للتدريب العسكري تستهدف الشباب في سنٍ مبكرة، مثلما هو متبع في نظام الخدمة الوطنية في السودان الآن، ومن اشتراطاته الانخراط في تلك الخدمة - عسكرية أو تطوعية في أيّ عمل إداري- قبل الحصول على الشهادة الثانوية، أوالالتحاق بالدراسة الجامعية.ذلك أمر منطقي لتعزيز الوعي بموجبات الروح الوطنية في تلك السنّالطرية. غير أن إجراءات تدريب موظفي الخدمة المدنية من كبار السن،وأكثرهم في درجات قيادية ، لا يبدو منطقياً، إلا إذا ارتبط ذلك باختباراتخفية، قصد التأكد من الولاء السياسي، أومراجعة من هم "في المنطقة الرمادية"، قبل ادماجهم ضمن المرضيِّ عنهم في المحاصصة السياسية/الإدارية، التي عرفت في أدبيات السياسة السودانية مؤخراً، بسياسة "التمكين الإداري". ذلك قاد إلى اتساع فجوة الثقة المفقودة، بين النظام ومن يعينونه من رجال الخدمة المدنية.
لكأنّ التدريب الراتب للإرتقاء بالوظيفة العامة، والذي كان متاحاً لرجال الخدمة المدنية بمختلف مهنهم، سواءً في داخل السودان أو خارجه، قد صار نسياً منسياً. ليس في الأمر ما يدهش، إذا علمنا أن باب التدريبوالابتعاث الخارجي لرفع القدرات، وبرامج الدراسات فوق الجامعية لمنسوبي الخدمة المدنية ، قد أوصد تماما. ليس ذلك فحسب، بل جرى لتنفيذ تلك السياسة في أول تسعينات القرن الماضي، إغلاق عددٍ معتبرٍ من الملحقيات والمستشاريات الثقافية والتعليمية ، بما في ذلك الملحقيات العسكرية، التي تتابع تدريب العسكريين في الخارج. الرسالة هي أن السودان في غنىً عن الأخر الأجنبيّ، وسيعتمد على إمكانياته الذاتية، ومن بينها دورات تدريبية،على غرار "كورسات" الدفاع الشعبي الإجبارية، التي جئنا على ذكرهاأعلاه. أجبرت أعدادٌ من أطباء، ومحاضرين في الجامعات، وسفراء من وزارة الخارجية، ومدراء بنوك، وكبار الإداريين، والكثير من قياديي الخدمة المدنية، وبعضهم على أعتاب سن التقاعد، للإنخراط في تلك الممارسات،التي وصفها أكثر المشاركين فيها، بأن مقاصدها الأساسية، هي كسر هيبة الوظيفة الإدارية العليا، وإذلال منسوبيها ، بلا مسوغ سياسي ولا إداري ولا أخلاقي مقبول.
(5)
أول سفيرٍ من وزارة الخارجية، ألحقوه بالدفعة الأولى في برنامج الدفاع الشعبي، سقط مريضاً بعد خمس أو ست سنوات، بداءِ السرطان اللعين ، لكن لم يجد الرجل- وهو من أميز سفراء وزارة الخارجية- تعاطفاًعلى حالته المرضية المتردية، وحاجته للعلاج العاجل، من طرف قيادة وزارته التي أرسلته لمعسكرات الدفاع الشعبي قبل سنوات، وتأبّت أن ترسله لمراكز العلاج بالخارج، بل ترك ليأسى بعيداً ، ويتوفاه الله، وهو دون سن التقاعد بقليل..
كان الذين يرسلون لمعسكرات التدريب على الدفاع الشعبي من قدامى الدبلوماسيين، هم هدف للتندر من القادمين الجدد، الذين جاءت بهم سياسات "التمكين"، ليكونوا دبلوماسيين ب"الولاء"، بعضهم وصفالدبلوماسيين المهنيين بأنهم "أقباط" الدبلوماسية السودانية- مع الاعتذار لأهلنا الأقباط- فهم أقلية سودانية تعاني أيضاً قدراً من الإقصاء غير قليل.لكن ينطوي هذا التوصيف على تلميحٍ خبيث، بأن وزارة الخارجية تشكل بؤرة من بؤر "العلمانيين" البعيدين عن الدين الإسلامي، ويتوجب تحجيم وجودهم فيها. بلغ الاستخفاف بالدبلوماسية المهنية أقصاه في سنوات التسعينات من القرن الماضي، حين نصّب بعض صغار الدبلوماسيين، ومنجرى تعيينهم نواباً للسفراء، مراقبين ذوي نفوذ، يديرون أمور البعثات الدبلوماسية من وراء ظهر رؤسائهم من السفراء المهنيين.. وصف دبلوماسي كبير في كتاب مذكراته، ذلك الحال بأنه يدعو للتندر والحسرة، إذ أفضتكل تلك الممارسات إلى إهدار المؤسسية وضياعها، عبر قلب نظام الانضباط البيروقراطي بين مستويات الوظائف الدبلوماسية المختلفة، فانهار احترام التراتبية التي كانت في انضباطها أشبه بتراتبية المؤسسات العسكرية، انهياراً لا يحترم فيه صغار الدبلوماسيين كبارهم من السفراء. .
كتب السفير أحمد عبدالوهاب جبارة الله في كتابه "محطات دبلوماسية"، الصادر في القاهرة عام 2014: (. . يجد المرؤ موظفاً دبلوماسياً صغيراً أو مبتدئاً، لكنه يتمتع بنفوذ داخل إدارة ما في ديوان الوزارة، أو في إحدى السفارات، يفوق زملاءه من أهل المهنة الذين لم تطلهم يد الإقصاء من الخدمة، أو حتى أن نفوذه قد يفوق نفوذ السفير الذى قضى أكثر من عشرين عاماً في الخدمة الدبلوماسية، لكنه لا يتمتع بعضوية التنظيم السياسي الحاكم !!) وأشار في صفحة 418 من كتابه،إلى أن السلطة العليا الرسمية. . كانت تشجع ذلك الانقلاب البيروقراطي، لأنها أرادت أن تتعامل حصرياً مع "أهل الثقة"، وليس مع "أهل الخبرة"، وأضاف السفير جبارة الله: ( أنهُ وللأسف فقد سادت ممارسات كثيرة، لا تتفق حتى مع أسس الأخلاق والسلوك المستقر في الثقافة الاجتماعية السودانية. . )
(6)
كنتُ في بلدٍ إسلامي، وأنا نائب للسفير الذي عملت معه لقرابة عامين، حين رتبت حفلاً مختصراً داخل السفارة لوداعه، قبيل مغادرته النهائية. ألقيت كلمة وداعية مراسمية مقتضبة أمام العاملين في تلك البعثة الدبلوماسية، وكان من البديهي أن أعدّد بعض منجزاته المعلنة، خلال أدائه لمهامه سفيراً في ذلك البلد. حين وقف ذلك السفير على المنصة، كان أول قوله:
( إنّ كلّ الذي سمعتموه من نائبي، هو عبارة عن شهادة "شاهد ما شفش حاجة" ..! ) هذا لسان من لا يمكن أن يكون دبلوماسياً البتة. لقد كان معلماً للفيزياء،ولكنهم جاءوا به في إطار تمكين من هُم أهل الولاء، ليكون سفيراً بلا أية مقدمات ، ولا أية خبرات ، في ذلك البلد الهام . .
ولأنني لم أتناول جانباً من اتصالاته التي كان يجريها دون أن يخبرني بها، وتتعلق بتعاون نفطي سرّي، يتجاوز عقوبات دولية مفروضة على تصدير نفط ذلك البلد، كان ظنه أني- كمثل عادل إمام في مسرحيته تلك-لا أعلم بها..! هكذا كان قدر "الدبلوماسي المهني": إما الإحراج أوالتغييب الكامل ، وإن كان شاهداً على شيء، فهو "ما شفش حاجة". قدراتي الدبلوماسية المتواضعة، أعانتني على مقاومة التغييب المتعمّد، فلم أكن "أطرشاً" في زفة "التمكين" المتصاعد، في تلك السفارة التي عملت فيها أوائل التسعينات من قرن مضى. . .
(7)
ما أثار الدهشة عند "الدبلوماسيين المهنيين" في سنوات التسعينات تلك، هو الفهم المقلوب الذي جاء به كثير من القادمين الجدد، للعملالدبلوماسي الخارجي. في فهمهم أن الخروج إلى العالم المختلف، للعملفي سفارات للسودان في الخارج، هو الجائزة الكبرى. أول كسب ذلك الدبلوماسي، هو توفير أكبر نسبة من راتبه من العملات الصعبة، خلال فترة عمله في تلك السفارة، ليعود غانماً بعد انقضاء مهمته، ليستثمر ماله في منصرف يعود عليه بعائدٍ، يضمن له استقراره واستقرار أسرته، إزاء صعوبات المعيشة الماثلة في السودان.. ذلك هو الهمّ الأكبر، لجلّ القادمين عبر سياسة التمكين. العمل الخارجي في فهم معظم "الدبلوماسيين المهنيين" ، هو القيام بمهمة تمثيل البلاد بتجرّد وبانقطاع وبتضحيات.الواجب الوطني للدبلوماسي المهني، يحمله إلى مناطق تصنّف "مناطق شدة"، عليه تحمل إقامته وعمله فيها، وإن كان في ذلك ما قد يعرض حياته للخطر، والأمثلة كثيرة لا تحصى. إن اقترن بزوجة وامتلك منزلا، ذلك أقصى أحلامه. بعض قصيري النظر يحسبون المهمة الدبلوماسية متعة وسياحة وبحبوحة عيش، فلا يرون مافي الانقطاع لخدمة الوطن من معاناة، ولا في العمل الخارجي من ثمن باهظ يلحق بفقدان الاستقرار، وباضطراب تعليم الأبناء ، وأكثر من ذلك ، ما يتصل بعمله في مناطق الشدة والنزاعات والزعازع..
لكن إن سألت عن حال بعض دبلوماسيي هذه الأيام، سترى عجباً، إذ فيهم من امتلك استثماراً مهولاَ، أو محلا لبيع قطع الغيار، أو فيهم مَن اقترن بزوجة على زوجته الأولى، أو مَن ابتنى بناية ذات شقق للكراء. وإن لم يكمل تغطية تكاليف مشروعاته، فإنه سيطلب أن تمدّد له فترة بقائه في السفارات الخارجية. أعرف سفيراً تجاوز العشرة أعوام في سفارة واحدة، وآخر جاء إلى سفارته وهو سكرتير دبلوماسي، وبقي فيها إلى أن تدرج مترقياً، حتى تولاها سفيراً معتمدا.
في سنوات الستينات والسبعينات، كان الدبلوماسيون في وزارة الخارجية السودانية، يتردّدون في تنفيذ النقل للعمل بالخارج، وكان أكثرهمقادمين من أسر فقيرة ومن خلفيات متواضعة، لكن لم يكن جمع العملات الصعبة، مما يحفزهم أو يعدونه في حساباتهم. أكثر سفارات السودان وقتذاك تعتبر "مناطق شدة" ، ولم يكن العمل فيها "جائزة"، يحسد عليها الدبلوماسي من أقرانه القابعين في ديوان الوزارة.
(8)
مقالي هذا هو ابتدار لحثِّ الدارسين المتخصّصين، للنظر بعين العلم الموضوعية، لظاهرةٍ، بدت مقبولة في وجهها السياسي والإداري، ومشفوعة بمبررات دينية، غير أنها أفضت إلى تداعيات واسعة الأثر ، ليس فقط في منظومة الخدمة العامة ، ولكن تمدّدت إلى أن لامست منظومة القيم والأخلاق والسلوكيات العامة. إن المثل الذي توسعتُ فيه عن تجربة الدبلوماسية السودانية التي تصادمت مع سياسات التمكين، لايختزل التجربة في تلك المهنة وحدها، بل أن تلك السياسة تمدّدت وشملت جميع المهن الإدارية والفنية والهندسية والطبية والتربوية وغيرها، شمولاً وليس حصرا.. أدعو علماء الإجتماع والعلوم السياسية، لسبر غور تجربة سياسات " التمكين"، تلك البدعة التي توسّعت زماناً ومكاناً، منذ 1989. . فكانت أداة للترهيب السالب، أكثر منها أداة للتغيير الايجابي، وتركت آثاراً إجتماعية على قطاعات عديدة من مكونات المجتمع السوداني، لا تخطؤها عين. .
صحيفة "الرأي العام"
الخرطوم- الخميس 17 سبتمبر 2015


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.