درجة الحرارة 40 .. حصيلة موجة الحر تتضاعف في أوروبا.. 8 قتلى وإنذارات في عواصم ومدن كبرى    خرق خطير يكشف عن برنامج تجسس "Catwatchful" يستهدف آلاف الهواتف حول العالم    ما هي توقعات الذكاء الاصطناعي لمباراة الهلال السعودي وفلومينينسي؟    عرفتك مستشار مع الحاكم لأنك مابتعرِف الفَرِقْ بين التّيْس والخروف !!    لجنة الطوارئ وإدارة الأزمات في الخرطوم تطلق تحذيرًا بشأن المقابر    عزمي عبد الرازق يكتب: إسرائيل والدعم السريع.. خفايا لعبة الورق على حدود السودان وليبيا    السودان.. الجيش يصدّ"الهجوم العنيف"    الهلال يواصل استعداداته لمواجهة الميرغني كسلا    علاء نفسه لو تجرأ و بشّر أهل الشمال بمشروع الجنجويد لن يسمع إلا اللعنات    ((الهلال خارج التاريخ؟))    في غياب الأجانب.. أولاد الهلال في المحك    شاهد بالفيديو.. مودل حسناء تخطف الاضواء بثوب سوداني أنيق تم تطريزه بعلم فريق برشلونة    مناوي .. من دواعي سروري أن يزورني الرفيق" شيبة ضرار" لقد سعى بعض أصحاب النفوس الضعيفة والعنصريين إلى خلق فتنة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تفاجئ الجميع وتضع (سفة تمباك) على الهواء مباشرة    ابوقرون ينقذ الموسم الرياضي ويقود التنمية المستدامة في ولاية نهر النيل.    شاهد بالفيديو.. ظهور لامين يامال في السودان.. طفل سوداني يتلاعب بزملائه في الملعب ويقدم فنون كروية مذهلة على طريقة نجم برشلونة ومحللون عرب يصوبون أنظارهم نحوه من أجل تسويقه    شاهد بالفيديو.. حسناء بالشرطة نادت على الطلاب الممتحنين.. وزارة الداخلية تطلق مبادرة لترحيل طلاب الشهادة السودانية من مراكز الإمتحانات    ذهب أفريقيا في قبضة 7 شركات.. قائمة ب10 دول تُنتج ولا تستفيد    موعد مباراة ريال مدريد وبوروسيا دورتموند في كأس العالم للأندية    ترامب يعلن موافقة إسرائيل على هدنة بغزة لمدة 60 يوما    ترامب: سأكون حازما مع نتنياهو بشأن إنهاء حرب غزة    والي الشمالية يخاطب الجمعية العمومية للإتحاد السوداني لكرة القدم    بعد زيارة رسمية لحفتر..3 وفود عسكرية من ليبيا في تركيا    بالانتصار الخامس.. الهلال يزاحم كبار العالم في المونديال    جوارديولا بعد الإقصاء من المونديال: بونو كلمة سر تأهل الهلال    إدارة المباحث الجنائية بشرطة ولاية الخرطوم تسدد جملة من البلاغات خاصة بسرقة السيارات وتوقف متهمين وتضبط سيارات مسروقة    جهاز المخابرات العامة في السودان يكشف عن ضربة نوعية    جهاز المخابرات العامة في السودان يكشف عن ضربة نوعية    السودان.. خبر سعيد للمزارعين    لقاء بين"السيسي" و"حفتر"..ما الذي حدث في الاجتماع المثير وملف المرتزقة؟    مزارعو السودان يواجهون "أزمة مزدوجة"    رسائل "تخترق هاتفك" دون شبكة.. "غوغل" تحذّر من ثغرة خطيرة    الجيش السوداني يستهدف مخزن ذخيرة للميليشيا ومقتل قائد ميداني بارز    بعد تصريحات الفنان شريف الفحيل الخطيرة.. أسرة الفنان الراحل نادر خضر تصدر بيان هام وعاجل.. تعرف على التفاصيل كاملة    بالتنسيق مع الجمارك.. خطة عمل مشتركة لتسهيل وانسياب حركة الوارد بولاية نهر النيل    مصادرة"نحاس" لصالح حكومة السودان    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    مِين فينا المريض نحنُ أم شريف الفحيل؟    تيم هندسي من مصنع السكر يتفقد أرضية ملعب أستاد حلفا الجديدة    إبراهيم شقلاوي يكتب: خميس الفكرة والنغم وتقرير المصير!    جار التحقيق في الواقعة.. مصرع 19 شخصًا في مصر    مصري يطلق الرصاص على زوجته السودانية    تعثّر المفاوضات بين السودان وجنوب السودان بشأن ملف مهم    لاحظت غياب عربات الكارو .. آمل أن يتواصل الإهتمام بتشميع هذه الظاهرة    كيف نحمي البيئة .. كيف نرفق بالحيوان ..كيف نكسب القلوب ..كيف يتسع أفقنا الفكري للتعامل مع الآخر    السودان..قرار جديد لكامل إدريس    تراثنا في البازارات… رقص وهلس باسم السودان    يعني خلاص نرجع لسوار الدهب وحنين محمود عبدالعزيز..!!    مكافحة المخدرات بولاية بالنيل الابيض تحبط محاولة تهريب حبوب مخدرة وتوقف متهمين    استدعاء مالك عقار .. لهذا السبب ..!    مزارعو القضارف يحذرون من فشل الموسم الزراعي بسبب تأخير تصاديق استيراد الوقود    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دفاتر كمبالا : رواية سودانية ... بقلم: د. صلاح فضل
نشر في سودانيل يوم 22 - 12 - 2009

كم نحن مقصرون تجاه إخوتنا فى السودان، لا نعرف الكثير عن إبداع نصفنا الجنوبى، فمنذ غيبة القطب الطيب صالح، بل وخلال حضوره المشع أيضا، ونحن لا نكاد نرى أحدا من مبدعى السودان، فُتنا يوما بكوكبة شعرائه اللامعين عند منتصف القرن الماضى، كان معظمهم يدرس فى مصر، وبقى يتردد منهم اسم الفيتورى فحسب،
وتراءت لنا بعد ذلك أسماء بعض نوابغ الروائيين، آخرهم صلاح حسن الذى أود أن أعود إلى روايته البديعة «سن الغزال» لكننا لم نتوقف مليا عندهم، وها هو اسم آخر يفرض نفسه علينا اليوم، بكتاباته الشعرية والسردية، السفير جمال إبراهيم الذى لفت إليه الأنظار بديوانه «امرأة البحر أنت» ثم بروايته عن تجربة انتقال مقر الجامعة العربية إلى تونس «نقطة التلاشى» ثم تأتى هذه الرواية الجديدة «دفاتر كمبالا» 2009 م لتقدم لنا نفحة أفريقية طازجة، تنبعث بحرارتها فى قلب الأدب العربى، لتجسد مسعى راو ملتهب الحواس، متوهج الثقافة،
أكمل دراسته الأكاديمية فى لندن كالمعتاد، ثم جاء فى هجرة ثانية للجنوب بحثا عن الجذور الحية للفن السودانى فى أدغال أفريقيا، وكيفية تلاقى الرسم مع النحت والشعر فى تمثيل روحه الوثاب، بما يمور فى خلاياه من عناصر عربية وإسلامية وزنجية، على اعتبار أن الفن هو البلورة الصافية للهوية، والتعبير المنقوش عنها على صفحة الروح.
ومع أن هذه الرسالة تمثل صلب الرواية فإن أطيافا بارقة هى التى تخطف اهتمام القارئ فيها، وتستقطب بؤرة التشويق لها، وهى مظاهر ولع الراوى المفتون بالجمال الانثوى الساحر فى أدغال أفريقيا، إذ لا يكاد ينجو من حبائل حسناء حتى يقع فى مصيدة أخرى تطغى على حسه ووجدانه بحضورها النفاذ.
ولأن الكاتب يجمع فى أصلابه الإبداعية بين السرد والشعر فهو يستهل روايته بمقاطع من قصيدة شاعر سودانى راحل هو محمد عبدالحى تؤطر مناخات روايته يقول فيها:
«الليلة يستقبلنى أهلى/ خيل تحجل فى دائرة النار
وترقص فى الأجراس وفى الديباج
امرأة تفتح باب النهر وتدعو/ من عتمات الجبل الصامت والأحراج
حراس اللغة المملكة الزرقاء
ذلك يخطر فى جلد الفهد/ وهذا يسطع فى قمصان الماء»
فيستثير لدى القارئ منذ البداية نوابض الاستعداد لالتقاط شعرية الأحداث، وعرامة النماذج البشرية، والمناخ المفعم بعطر الاسطورة وعبق الشهوة، كما تجسدها طقوس الوجد السودانى المولع بنشوة اللغة فى مجازاتها الرمزية ومرح الحياة فى تفاصيلها الغنية.
الخليط الحضارى:
يفتتح الراوى «هاشم» دفاتره التى كتبها فى مدينة «كمبالا» أواخر عقد السبعينيات، خلال عمله أستاذا لتاريخ الفن فى جامعة «ماكريرى» بيوغندا عند منابع النيل، حيث يلتقى هناك بيوسف كامل، ضابط مخابرات سودانى، فى إحدى الحانات، وتكون التباسات الهوية هى نقطة تجاذبهما، إذ يتعرف عليه مباشرة باعتباره سودانيا دون أن يحسبه مصريا كما تعود اليوغنديون أن يفعلوا نتيجة لملامحه المصرية، إذ نشأ كما يبوح له فى حى «المسالمة»، ذلك الحى القديم فى مدينة أم درمان حيث تقطن أسر كثيرة تنحدر من أصول مسيحية ومصرية قبطية على الخصوص، إلى جوار مسلمين تصاهروا وانصهروا معهم فكان لسكان الحى هذه السحنة الحنطية المميزة.
وتظل مشكلة الهوية، وقدرة الفنون التشكيلية والموسيقية خصوصا على تجسيدها، هى العصب النافر فى الرواية، فلا تقتصر على امتزاج الدماء المصرية والسودانية واختلاط ملامحهما فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى هذا المزيج الحضارى الذى أنضجته شمس أفريقيا وغزوات أبنائها حول منابع النيل، إذ يقول الراوي: «آه من هذه الغزوات اللونية التى أورثتنا التباسات فى الهوية بامتداد نهر النيل الاسطورى الذى شهد حضارة الفراعنة، وبنيت فى أكنافه أهرامات امتدت من شمال السودان عن مروى وتواصلت إلى الجيزة فى أطراف القاهرة، ثم اختلطت مياه النهرين الأبيض والأزرق، منسابة من هضاب الشرق الأفريقى وأعالى خط الاستواء، لتشكل ذلك النيل الذى أعجب «هيرودوت» كثيرا فجعل مصر هبة النيل،
أما فى التقاء النهرين فى الخرطوم فإن الخرطوم تصبح مدرسة فى الإبداع التشكيلى يعترف بها العالم، وهى التى الهمتنى الكثير خلال إعدادى لاطروحة الدكتوراه عن تاريخ الفن فى القاهرة الأفريقية، ومع أن الرواية لا تذهب إلى أبعد من ذلك فى استجلاء هذه العناصر الفنية والتركيز على تجلياتها، فى الطبيعة والثقافة والألوان والتقاليد فإنها توحى لنا دائما بأن البحث عن هذه الهوية والتماس شواهد تحققها فى الأماكن والشخوص هو بؤرة الجذب فى العمل الفنى كله.
المروى له:
تعتمد بنية الرواية على مجموعة من الدفاتر التى كتبها الراوى خلال مقامه فى «كمبالا» وسجل فيها تأملاته وعلاقاته، خاصة النسائية منها، وهو يضطر إلى إعادة قراءتها بصحبة سيدة جميلة هى سميرة الشرقاوى، مصرية الأصل أيضا، أرملة صديقه يوسف كامل الذى اختفى فى ظروف غامضة، إثر الانقلاب الذى حدث على الجنرال عيدى أمين وأطاح بنظامه الدكتاتورى وشرد مجموعة مستشاريه من جنوب السودان الذين كانوا يتحكمون فى مصير يوغندا فى عهده.
تلعب هذه السيدة دور المروى له بمفارقة واضحة، فالدفاتر تتضمن كثيرا من تفاصيل علاقات الراوى الحميمة، ولم يكن يخطر له عند تسجيلها أن أحدا سيشاركه الاطلاع على ما فيها من بوح، لكن الظروف تضع هذه السيدة فى موقف القارئ أو المنصت لأسرارها، فهى تبحث عن الإشارات الواردة فيها، مما يمكن أن يلقى الضوء على مصير زوجها وكيفية اختفائه، والراوى يعيد فيها اكتشاف ذاته، واستعادة تجاربه الخطرة، ابتداء من هروبه من خطيبته السودانية، إلى تعشقه لفتاة يوغندية لعوب تسمى «بيتى» أذهلته بقدرتها على الرقص المتوحش، لكن تحررها وتنقلها بين الصحاب جعله يعاف صحبتها، حتى يقع فى أتون تجربة مثيرة فى مراودة «كريتينا» سكرتيرة الكلية وراعية إقامته على الرغم مما نجحت فيه من عقد صداقة بينه وبين زوجها لتبعد شبح غوايته عن نفسها،
لب هذه الدفاتر إذن هو ذلك التقلب النزق بين حالات العشق والصبابة، وقليل من لفتات الثقافة الفنية والتحليل السياسى لأحوال هذه المنطقة الأفريقية المفعمة بالتحولات والأحداث فى علاقات الجوار وتحرشات العدو الصهيونى وطرائفه فى الغوص فى مشكلاتها،
وعندما يخرج الراوى فى نزهة ممتعة على شاطئ بحيرة فكتوريا يصبح بوسعنا أن نشهد معه واحدة من أفتن لوحات الطبيعة النيلية الساحرة. المهم أن تقنية المروى له، وهى فتح الدفاتر أمام شاهدة كانت غائبة تنجح فى إدراج المذكرات فى نسق سردى أشد خصوبة وحركية مما كانت عليه، إذ لا تصبح مجرد صفحات مدونة، بل هى مثيرات للتأمل والاستجابة والتعليق ونسج خيوط جديدة لعلاقة وليدة مع رفيقته فى السرد، فيمضى الراوى فى الاستطراد لتحليل المزاج الإنسانى لأبناء القبائل الكبرى وبناتهن بعروقهن النبيلة وأرومتهن الطيبة، يقول مثلا وهو يتحدث عن معشوقته «كريستينا»: «هذه السنديانة الطرية، فى علوها وسموها، ممتلئة الساقين بعافية ونضارة، فى لون العسل المصفى، عيناها فى اتساع العيون العربية، وعيون الإسبانيات الفارهات، لا أرى أنبل من الغجر فى رحلاتهم التى لا تعترف بحواجز الطبيعة أو السياسة أو الثقافة». ولأن الراوى يهرب من التعقيدات السياسية التى أعقبت سقوط حكم عيدى أمين فيخرج متسللا من يوغندا عبر الطرق البرية الخطرة ويعود للسودان، فإنه يؤْثر أن ينهى قصته بمقطوعة شعرية أخرى تكمل مقطوعة الافتتاح للشاعر ذاته إذ يقول:
«الليلة يستقبلنى أهلى
أهدونى مسبحة من أسنان الموتى/ إبريقا جمجمة
مُصْلاة من جلد الجاموس
رمزا يلمع بين النخلة والأبنوس»
فيختتم روايته بالمذاق الاسطورى الشعرى ذاته، بعد أن نفث فيها بمهارة بارعة عبقا من ضوع الفن والسياسة والحياة الفطرية المولعة بالعنف والبراءة والجمال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.