هل تعيّد العمليات الإرهابية التي تعدَّدت مواقعها عبر العالم إعادة تعريف الإرهاب من الناحية الجيوبوليكية؟ تقليدياً، و ربما إلى آخر فرضيات التحليل السياسي الدارج عادة ما تعرف الجماعات الارهابية بأنها مجموعات لا تحكم أو تسيطر على دولة وفق السياق الجغرافي و السياسي و القانوني للدولة. فأشد ظواهر العنف السياسي دائماً ما كانت تسنده ايدولوجيات و دول بالمعنى السياسي أو الثوري؛ في ألمانيا النازية أو ديكتاتوريات العالم الثالث البشعة. ثمة خطوط يتعامل معها العالم بعدم التدخل في الشئون الداخلية طالما أن الدولة ذّات سيادة و شرعية و لديها تمثيل في منظمة الأممالمتحدة كأقصى أعتراف بالدولة أي يكن منهجها في الحكم. فالأرهاب اصطلاحاً لا يعد ضمن نظم التطور السياسي للمجتمعات، و لكنه قادر بغير نظام تقويض الأسس السياسية التقليدية. تبرهن الأحداث التي هزّت العالم خلال الأسابيع الماضية من تفجيرات دامية في باريس و الطائرة الروسية في سيناء و ضاحية بيروت الجنوبية في رقعة جغرافية تجازوت المنطق الجغرافي و السياسي على نقص يعتري التعريفات و ربما التدابير الكلاسيكية في للعالم و مواقع القوة فيه. فإذا كان العالم إلى وقت قريب يأخذ بمعايير توازن القوى Balance of Power مقياساً للحد و التحكم في العنف الممارس عبر الحروب في سياق المنظومات الطبيعية لمؤسسات الدولة، فإن انتقال العنف –الإرهاب- من حيز التأييد الايدولوجي في أدبياته إلى ممارسة فعلية تتخطى منابعه لتضرب بعيداً في أراضٍ تختلف في الموقع و الثقافات و اللغات و الهويات . إن تقصي ظاهرة الإرهاب في العقدين الأخيرين أقتصرت على تحليلات تأريخية لدراسة و فهم المجتمعات التي أفرخت أولئك الأرهابيين اعتماداً على مناهج لم تتطور في الأخذ بما استجد و يستجد في النظام العالمي من حيث الفضاءات التي أوجدتها تكنولوجيا حديثة غيرت من أنماط الاتصال و الأفكار عالميا. و عليه فشلت مثل هذه التحليلات و غيرها من الاستقصاءات الاستخباراتية في التنبؤ بالأحداث المرعبة التي تفأجيء العالم. فالمفاهيم لم تعد وحدها قاصرة عن التعامل مع موجة غير مسبوقة في المواجهات العنيفة، و لكن أيضا بنى مؤسسات الدولية القائمة التي صيغت للتعامل مع عالم واضحة معالمه بحاجة إلى إعادة نظر في أسسها التي يهددها فعلياً الإرهاب بمشروعه العالمي و طموحه الذي لا تحده حدود الدولة التقليدية. لقد واجهت فرنسا هجمات على أسس دينية منطلقة من خارج حدودها، و هي دولة ما بعد الدولة الدينية ( علمانية) منذ أن تبنت مبادئها ذات التوجهات الانسانية التي أعقبت الثورة الفرنسية إلى مرحلة القانون الفرنسي للفصل بين الكنائس و الدولة 1905م. عرفت فرنسا الإرهاب و عرفه العالم من خلال المرحلة التي صاحبت ثورتها أو ما يعرف بعصر الإرهاب قبل ثلاث قرون بين شعب و نظام في دولة ذات تركيب عضوي. و الآن تواجه شكلاً مركباً من مواطني الدولة الجدد الذين تتعدد أصولهم الثقافية و الإثنية و لكن على أرض التراب الفرنسي، مواطنون فرنسيون بالقانون و مبدأ الأخاء الإنساني. و لكن يبدو أن مواجهة خطر الإرهاب الداهم ذي أولوية قصوى من تفسير ظاهرة التعدد الثقافي في بلد عني ودعى للثقافة و المثالية الإنسانية في اختصار لغوي يحدد مبادئه الهادية في الحرية و المساواة و الإخاء. و مع ذلك يبقى للإرهاب وجه الانساني ( تبريرا) حسب الفيلسوف الفرنسي هنري ليفي. فالهجوم على مجلة شارل ايبدو الساخرة دفعت المجتمع الفرنسي إلى تقييم أسس حرية التعبير و ما تعنيه في مقابل جماعات تشاركها الاقامة و الحقوق. وزير الخارجية الأسبق هنري كسنجر من أكثر المتشددين في دعواه على أن النظام العالمي بنيى و يجب أن يُبنى على نمط الدولة القومية التي تشكل اتفاقية صلح وستفاليا في القرن السابع عشر المرجع الذي وضع أطرها السياسية؛ و من ثم ظلت نسخة عالمية سائدة. مثل هذا الاحتفال بالنسخة الأوربية لمفهوم الدولة يكاد يكون الديباجة الأبرز في كافة مؤلفاته و منها أخيرا في كتابه النظام العالمي. و كما أن – بإعترافه - ثمة مجتمعات سبقت فيها الدولة المجتمع و هي بالطبع خارج السياق الغربي، إلا أن الروابط و العوامل المكونة لجغرافيا بشرية هائلة في التاريخ و الإنتشار الجغرافي عادة ما تبنى تصوراتها من مرجعيات غير أوربية. فالجماعات الاسلامية أو بالأحرى جماعات الاسلام السياسي لا تتبنى مفهوم الأرض/ الدولة إلا بالحدّ الذي تصل إليه رسالتها بأي وسيلة مبررة. لأن قضية الانتماءات في أقصى تجلياتها في التصور الايدولوجي للجماعات الإرهابية لا تحفل كثيراً بمفهوم الدولة بحدودها المرتِّسمة على واقع طبوغرافي تقطنه ديانات و ثقافات تقترب في معالجتها العالمية من صدام الثقافات برؤية المفكر الاميركي صموئيل هنتغتون في أطروحته ذائعة الصيت. إن مفكر الجماعات الاسلامية و رمزها التقليدي سيد قطب لا يرى في الانتماءات القومية سوى انتماء إلى الطين الذي يتجاوزه الإنسان الذي كرمه الله! آي لا أوطان مع الأديان. إذا كانت العولمة كظاهرة إنسانية غضَّ النظر عن جوانبها الاقتصادية و السياسية، فإنها قد ألغت أو سطحّت الحدود التقليدية بين قارات العالم ليس على المستوى المادي، و إنما استتبع ذلك عولمة للأفكار بما فيها الإرهاب. صاحب هذه الانتقال الإرهابي بروز نوع آخر من التحالفات في مواجهته عالمياً، فعلى مدى البؤر المتفجرة هناك تحالف لحروب مضادة : التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الاسلامية في العراق و سوريا ( داعش)، و التحالف العربي لمواجهة الحوثيين في اليمن، و أخيرا انضمام روسيا و فرنسا في الحملة على الإرهاب لضرب مواقع تنظيم الدولة. إذن متغيرات الحرب و سبل مواجهتها لم تعد استمرار لسياسية حسب المقولة التقليدية في الاستراتجية من أن الحرب هي استمرار لسياسية بوسائل أخرى للقائد البروسي كلاوزفيتز، فبالنظر إلى حملات التصدي الدولى يقف العالم أمام مفاهيم جديدة مُتخلقة من العولمة التي دشنتها عوامل العولمة نفسها. يفترض المتحمسون للعولمة أن تفسح المجال لدخول مفاهيم تحتاجها بعض مجتمعات الدول لتغيير بنيتها الهيكلية على مستوى نظامها السياسي لتكون أكثر ديمقراطية تطبيقاً لتصورات حقوق الإنسان كما هي في الدول الغربية على الأقل نظرياً، ولكن العولمة ليست معادلة تتساوى نتائجها عند التطبيق. فالإنقسام التقليدي بين عالم الشمال و الجنوب يفضي إلى توقع نتائج محتملة الوقوع، فالهجرات إلى من الشمال إلى الجنوب، وهي هجرات متوطنة لا تتقبل أنماط ثقافات مجتمعات تطالب بالاندماج في واقع جديد و مع ذلك تتأبي الثقافات المهاجرة إلا أن تظل مسكونة بواقعها التاريخي و الثقافي و بالتالي قابلة لتطبيق بعض رؤى أفرادها متمثلاً في العنف الإرهابي. يصدق القول بأن العولمة قد عولمت الإرهاب و لم يعد يعترف كما العولمة بالحدود، أصبح الإرهاب هو الدولة و العالم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.