سافرنا أمس إلى "سيينا "(تنطق مثل فيينا) ، مدينة صغيرة من القرون الوسطى.سافرنا بسيارة كارلو وتيتسيانا.الأودية تشق هضاب توسكانا الخضراء و تنحدر منها، ثم تلتقي في أسافلها في هيئة أخاديد عظيمة. ما أوفر الكروم و الزيتون في هذه الهضاب! الخضرة هنا تعطي التاريخ و القدم معنى آخر. تلك السرمدية و الأبدية و العتق ... كل تلك المعاني التي ألفناها على ضفاف النيل،لا يشعر بها المرء ههنا! سيينا، قالوا إنها كانت من أعظم مدن الروم في القرون الوسطى من حيث المال و المصارف والعقار. زرنا فيها" الكامبو" ،ميدان فسيح في هيئة ذيل طاووس، منضد بطوب أحمر رفيع مستطيل الهيئة،تحده دور مرتفعة نحيلة. تتسق نوافذها في مجموعات: مثنى و ثلاث، تؤطرها أقواس قوطية مشرئبة إلى السماء. زرنا أيضا " الدومو" ، كنيسة مبنية على الطراز القوطي، واجهتها مترفة إلى حد التخمة، دواخلها رحبة فسيحة،أعمدتها أسطوانية تبرز فيها أركان حادة، أرضها منضدة باللوحات المرمرية،، جدرانها مرمرية غالبا ، تغطيها أحيانا رسوم متخذة على أخشاب ملونة، رسوم روعي فيها إبراز الأبعاد الأفقية المتناغمة .. سألتهم عن المرمر؟ قالوا لي جبال سواحلنا الغربية مرمر و صخور ، تذكرت الصوان و الجير و القرانيت على ضفاف النيل، ثم قفزت إلى ذهني مقبرة نابليون في الأنفاليد و المرمر الأحمر.شوارع المدينة دائرية ملتفة حول ذيل الطاووس تشق الدور العتيقة الشاهقة المحكمة الصنع، وعلى الجدران شواهد ، من حين لحين، لحياة غابرة: مرابط جياد معدنية في هيئة جياد على الجدران، و قواعد مصابيح كانت تضاء ليلا ،حسنة الصناعة ، جميلة المظهر، الجدران الشاهقة تنتصب عليها في أعاليها جسور كتلك التي في فينيسيا، تحمل غرفا مستطيلة ذات نوافذ صغيرة بديعة الصنع. الجدران الشاهقة على عتقها لا تميل و لا تنحرف. عهدي بجدران باريس القديمة في جزيرة السين و سان لوي ،مائلة منحرفة تكاد أعاليها أن تتعانق أو أن تتفارق فراقا لا رجعة بعده. ما رأيت مثل سيينا مدينة بهذا العتق و هذا الجمال في آن! قالت لي تيتسيانا :" هذه المظاهر يعقلها المرء ببطء و مع طول الزمان .. يلحظها المرء تتردد من حين لحين و من موضع لموضع، ثم يبدأ يتلمس فيها وشيجة خفية تصل القرون و تنمي الزمان". لم أعهد في نفسي عشقا لهذه المظاهر العمرانية كما أعهده الآن و أنا في ربوع توسكانا! و لم أعهد في نفسي حنينا للخندق و دورها المشرئبة العالية المتماسكة، كما أعهده الآن و أنا أتنقل ما بين سيينا و أريتزو و كورتونا! قال لي خضر:"إن تلمسنا العمارة الإسلامية في السودان لوجدناها ماثلة في سواكن و الخندق و بربر".سألت عمنا عبد اللطيف يوما عن سبب هذا الثراء الملحوظ في بيوت الخندق، الذي ما زالت تبدو مظاهره ، رغم البلى و عوادي الزمان، في ذلك الذي البهاء الذي يغمر نفوس المسافرين الذين تمخر بواخرهم النيل هبوطا و صعودا، وهم يفارقون ضيق الملل و الرتابة الذي يضفيه تكرار منظر القرى النوبية المستلقية على الشواطئ و الجروف ، إلى سعة مرأى المآذن السامقة الملونة والبيوت المتباينة في ارتفاعاتها، تباين تضاريس الخندق ، ما بين هضاب و أودية و أخاديد..ثم ذلك الجلال الذي يفرضه مشهد القلعة(القيلقيلة) التي تشرف على الضفة اليسرى لنهر النيل. في الدور المكونة أحيانا من أكثر من طابق، في زخارف السقوف و عتق الأبواب و حسن صنعها..أجابني أنه لم تكن توجد على ضفاف النيل جنوبأسوان ، مدينة في ثراء الخندق .كانت محط القوافل و مرسى المراكب و السفن.كانت السفن الصاعدة من مصر تتحرى في رحلتها موسم الفيضان تجنبا للجنادل و الصخور، و كان مرسى الخندق أقصى ما تبلغه تلك السفن باتجاه الجنوب قبل انحسار النهر ،جيئة و ذهابا،صعودا و هبوطا .و كان مرسى الخندق ، بسبب من ذلك محط القوافل الهابطة من سهول كردفان و دارفور ، المتتبعة للأودية و الواحات و مساقط المياه في الصحراء، السالكة لدرب الأربعين ، المحازية لواحات القعب، تحمل بضاعة بر السودان من عاج و ريش نعام و صمغ و تبغ و أنعام إلى ريف مصر و ما وراء مصر. . مونت سان سافينو ، إيطاليا ،ديسمبر 1984 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.