(يا واقفا على باب السلاطين ارفق بنفسك من هم وتحزين) حلال المشبوك،، أيًا كانت الآراء حول اللغة التي قيل بها الشعر في عصر دولة الفونج من حيث الفصاحة أو العامية فإن شعر تلك الفترة كان جانحًا للتعبير عن خلجات النفس وحاجاتها، وأنّه ارتبط أساسًا بفن الغناء وما يعرف ب"النم" أو "الدوبيت" الذي يحاكي فن "الحداء" الرجزي.. كما لم يكن متخلفًا في مسيرته التاريخية والأدبية عمّا حوله من البلاد العربية الأخرى؛ بل كان مواكباً في جميع أطواره. والناظر لطبقات ود ضيف الله يلمح كثيرًا من مظاهر العاميّة الدّارجة بذات القدر الذي يلمح فيه مظاهر الفصحى؛ فإن كنا الآن في عصر الثورة الرقميّة والانفتاح الفضائي نكتب الشعر بشقيّه الفصيح والعامي فما الغريب في أن تكتب أمّة ما سابقة بعاميتها ولهجتها المحليّة.. لقد كتب شعراء ذلك الزمان ما عَني لهم من لغة وتراصّ أمامهم من معانٍ ومحفزات عدّوها الأنجع من حيث رصد تلك الصور والرؤى الشعريّة. لقد تميّز الأدب السوداني في عهد دولة الفونج بالتقريرية وعدم نضج الصورة الشعرية، وعدم التقيد بأحكام الإعراب والنظام الموسيقي الصوتي؛ ومع ذلك فقد كان شعراً حيّا يصور حياة وبيئة معاصريه، وعلى الرغم من محدوديّة أدواته التعبيرية المتاحة حاول جاهدا أن ينحو بالقصيدة نحو الفصاحة ومتانة البناء ونصاعة المعاني.. في تلك الفترة انحصرت أغراض الشعر حول نمطين محددين هما المدح والرثاء، فبجانب مدحهم النبي الكريم مدحوا أئمتهم في الدين وأهل السلطان ورثوهم وربما بالغوا في صفات المدح والرثاء لا سيما رجال الدين بما لهم من حظوة عند ملوك الدولة السنارية. ويرى خالد حسين أحمد عثمان أنّ القصيدة في عهد الفونج حوت بعض الصور والاستعارات المأخوذة من الشعر العربي الفصيح؛ مثل (من أسد شبول) (صوفي الصفات) (بيض الوجوه) أهل (الفضول) في القصيدة التي قالها عبدالنور في رثاء الشيخ أبو إدريس العركي ومديح ابنه دفع الله الذي خلفه في مشيخة الطريقة: صوفي الصفات فذاك شيخي أبو إدريس الورع الوجول لأخراه سريعاً مستعدًا وعن أعمال دنياه عطول لا يشتاق للذّات فيها من مأكول ومشروب العسول لمرضاة ربه سهر الليالي أحب الجوع واكتسب النحول سوى القرآن سراً والصلاة وسنة أحمد الهادي الرسول وقد تخلّف بعده الحبر المسمى بدفع الله من أسد شبول وأولاده كلهم صالحون بيض الوجوه أهل الفضول ويعقد خالد مقارنة بينها وبين قول حسان بن ثابت: بيض الوجوه كريمة أنسابهم شم الأنوف من الطراز الأول وذكر شوقي ضيف في كتابه العاشر من تاريخ الأدب العربي أنّ بعضا من شعراء عصر الفونج دعوا إلى الزهد وانتظار متاع الآخرة كالشيخ فرح ود تكتوك صاحب الأبيغراف الوارد في تقدمة النص، وأحد أشهر رجالات ذلك العصر: كم دودة في عميق الأرض في جُحر يأتي لها رزقها في الوقت والحين ألا الزم العلم والتقوى وما نتجت من الثمار تفز بالخُردِ العين من باع دينا بدنيا واستعز بها كأنّما باع فردوسا بسجين وكانوا كما يقول عبده بدوي في مؤلفه "الشعر في السودان" يخضعون الشعر لقضية الترنيم والسماع فيتخففون من القافية ويشبعون الحروف كقول الشيخ مكي الدقلاشي: الله لي عدة في كل نائبة أقول في كل نايبة حسبي الله يا فارحا بالمعاصي عند خلوته أما علمت بأنّ الشاهد الله إلى متى أنت في لهو وفي لعب فما مقالك فيما يعلم الله كما نلمح في تلك الفترة أشعارًا مناوئة للسلطة وتدعو للابتعاد عن الحكام وبطانتهم كقول الشيخ فرح: يا واقفا على باب السلاطين ارفق بنفسك من هم وتحزين تأتي بنفسك في ذل ومسكنة وكسر نفس وتخفيض وتهوين استغن بالله عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين وربما عُدّت الأبيات دليلا على تطوّر القصيدة نوعًا ما في ذلك الزمان حيث نلمح فيها شكلا بنائيًا مع الاحتفاظ إلى حد ما بأوزان الشعر الفصيح، كما أنّ البيت حوى نواح جمالية بما فيه من رصانة ابتدأت بالنداء الدال على القرب، وعاطفة الترفق والنصح في فعلي الأمر الطلبيين "ارفق" و"استغن" وغيرهما من الأفعال في بقيّة القصيدة. وكان للشعر تأثيره فأحياناً يكون سبباً لاشتعال الحرب بين القبائل؛ ويروي المؤرخ محمد عبد الرحيم عن زحف قائد ملك سنار "محمود ودكونيه" على الملك إدريس ملك الجعليين بجيش يقارب الثمانية آلاف فخاف الأخير على فناء قبيلته وحزم أمره على الفرار، فدخل عليه الشاعر النعيسان وأنشده قائلا: إدريس أبوي ماصع الضُّمر بالرّق إدريس مدفع الترك الذخيرته تبق شمّر يا ولد ولى نحاسك دق قدر الله بيطيح حتى إن بقيت في حق ويبقى القول أنّ الحركة الأدبية في عهد الفونج قامت بمجهود صفوة قليلة من العلماء؛ كانت تسعى إلى النظم بالفصحى، وربما من صُدف قدر تلك الدولة أن تنشأ في عصر تقهقر فيه المسلمون، وسقطت دولتهم في الأندلس؛ فضلا عن وقوع المنارات وسوح العلم كالأزهر والقيروان في قبضة الدولة العثمانية التي تراجع الأدب العربي في عصرها تحت ضغط الحكام العثمانيين الذين تعصبوا لنشر لغتهم التركية، بجانب جهلهم باللغة العربية وإبعاد الشعراء عن مجالسهم، وإغلاق معاهد العلم وعدم العناية بالثقافة.. ومهما يكن من شي فإنّ شعر الفونج نشأ في مجتمع بسيط تسيطر عليه الصوفية؛ بل إنّه شبّ في كنف الطرق الصوفية، فجاء معبراً عن لسان حال ذلك المجتمع، وأضحى نواة للشعر السوداني الفصيح الذي نضج عوده واستقام ميسمه حتى بلغت نضارة العبارة حد أن يقول إدريس جماع: دنياي أنت وفرحتي ومنى الفؤادِ إذا تمنّى أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنّا عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.;