واحدة من أقدم مدارس السودان جاءت نغمة هاتفه شجية لشاعر شعبي يُعدد و يمجد صفات الفارس أو الولد الذي تجده في النائبات، الولد الأغبش الذي لا يعتني ببدنه أو يُمشط شعره – وفقاً لمفاهيم بعض من أهل بادية السودان، خلافاً لآخرين في الشرق و الغرب يعتنون بشعرهم و بشرتهم .و تظل تستمع إلي ذلك الحديث المقفي و لا تمل السماع- غير أن الولد علي الطرف الآخر يقطع تلك المتعة و يرحب بصوت عميق و برئ- تُعرفه بنفسك و الغرض من المهاتفة ، مما يُثير ذكريات و أي ذكريات ؟ للطفولة البريئة و سنواتها الغضة بمدرسة التميد الأولية ليمتد- كما كنا نكتبها ! مدرسة التميد الأولية ذات الرأسين ليمتد و لا ندري تلك الرؤوس أو مغزي كلمة ليمتد ! و نحسب أن المختصر الأخير يعني صفة للقوة أو العراقة أو ...لا أدري. مدرسة من أوائل المدارس التي أنشأتها السلطات البريطانية بعد هزيمة دولة المهدية و قد ساهم في قيامها و مدارس أُخريات السيد/بابكر بدري في عام 1904م بقرية التميد والتي كانت مقراً لرئاسة الادارة الأهلية.لقد أرادت القوي الاستعمارية نشر التعليم الحديث لكسر حِدة التعصب للقومية الوليدة و للجهاد كمفهوم راسخ في تعاليم الاسلام- و ما قامت المهدية إلا لغرسه في النفوس ! إختاروا لمهمة نشر التعليم رجال عارضوا المهدية و آخرين كانوا أنصاراً مثل بابكر بدري و قد وجد قبولاً بين الناس – لحصافته و ذكائه و معرفته بالناس. و لما يمضي كثير وقت حتي هبت منطقة الحلاوين بقيادة عبد القادر محمد إمام – المعروف بود حبوبة وهو من أنصار المهدي و شارك في كثير من المعارك بما في ذلك حملة ود النجومي . بل قبل المهدية كان مقاتلاً و قد حارب مع الشيخ طه ضد الأتراك و قد أثناه ذلك الفقيه المجاهد عن خوض معركته الأخيرة مُدخراً إياها لمعركة قادمة ! رؤية من رؤي الصالحين ! ثار ود حبوبة في عام 1908م و من ثم فقد أُغلقت المدرسة. و لم تستأنف الدراسة إلا في عام 1919م بعد مساعٍ من الشيخ محمد الأمين القرشي و غيره من أعيان المنطقة. صادفت المدرسة نجاحاً باهراً بقيادة رجال أفذاذ و أساتذة نُجب – منهم محمد أحمد الشايقي و محمد االقاضي الهادي و الشيخ مضوي و الشيخ حامد وقيع الله و الشيخ أبو عاقلة حمد النيل و غيرهم. بعد قيام مشروع الجزيرة إستقبلت المدرسة أجيالاً من أبناء العاملين بالمشروع و المقيمين وسط قري الجزيرة في مكاتب كنا نطلق عليها كلمة سرايا – كانت بيوتها جميلة لها سقوف حمراء و تحوطها الحدائق الغناء.كان يأتي من تلك السرايا أبناء العمال و الموظفين و المفتشين و المهندسين، حيث يختلطون بأبناء المنطقة، كان بعضهم جد مختلف في الملبس و السحنة و النظافة- و بذلك دفقوا ثقافة و نقلوا معرفة جديدة ، لا يعرفها سكان الريف مثل السندويتشات المحشية بالبيض أو اللحم المفروم اللذيذ و ربما بأشياء أخري لا يعرفها طلاب الجزيرة و الذين كانوا يأتون علي الأتون أو علي أرجلهم و هم يحملون كوراً و طاسات يوضع بداخلها إفطار أيضاً لذيذ – كسرة بالملوخية البايته أو بإدام القرع أو بالروب و قد يحملون قرشاً أو قرشين لشراء الطعمية أو سندوتشات الفول من دكان العم محمد عثمان و الذي تعرفوا عليه للتو. أذكر من زملاء الدراسة من سراية دلقا الطالب نبيل نجم الدين و شقيقه و لعلهم من منطقة الحلفايا من جهات بحري، كانوا يأتون بملابسهم النظيفة تحملهم عربة أبيهم المفتش بالسراية. أخذ المتحدث بالهاتف يُعدد من دفعته بالمدرسة : محمد سعيد يوسف و الذي صار مهندساً مدنياً تحصل علي درجة الماجستير من إنجلترا و عمل بدولة الامارات لعقود من الزمان. و بشري آدم و الذي وصفه الفريق محمد عبد الله عويضة بأن شعره كان كصوف الكديس و أضفت إليها صوف كديس بلله مطر ! جاءت أسرة الطالب عويضة من بادية شرق النيل و من البطاحين المعروفين بالكرم و التصوف و صياغة اللغة في شعر جميل أو دوبيت .جاءت إلي الجزيرة في عهد السودان القديم الجميل حيث حرية الحركة و الأرض للجميع – مشاعة للسكن و الرعي و التجوال و لا تجد المجموعات المتنقلة إلا الترحاب و تبادل المنافع- يحملون اللبن في الصباحات الندية و السمن و ربما الدجاج و البيض و يأخذون من القري المجاورة السكر و الشاي و البن و الملح و ربما اللحم ! لم تكن حاجاتهم كثيرة ! تجد أجيالاً متواصلة من الطلاب من أسرة واحدة مثل أبناء الصراف المبارك ود علي و الذي كنا نشاهده بحقيبته السوداء آخر كل شهر ليوزع الرواتب علي العمال و المعلمين. كانت مدرسة كبيرة بها داخليات لأبناء القري المجاورة طباخين و طباخات، كنا نشاهد طلاب الداخلية يحملون صحن الطلس الكبير مقلوباً و العصيدة صلدة صلبة متماسكة لا تنسكب و لن تزيحها إلا الأيدي الصغيرة بعد صب إيدام مما يتيسر في ذلك الوقت ! للمبارك ود علي أبناء نجباء و كانوا متميزين منهم إبن دفعتنا محمد أحمد والذي قبل بجامعة الخرطوم و أضحي مهندساً و مامون الذي درس الرياضيات و أصبح معلماً لها بالمدارس الثانوية.بشير و قسم السيد تخرجا أيضاً من المعهد الفني – ورثوا النجابة و الذكاء. كذلك تلقي جزءاً من تعليمه فيها أمين آدم و قد كان الأول في الشهادة الوسطي علي مستوي البلاد.و أضحي طبيباً و كذلك علي العوض محمد أحمد وقد جاء كذلك الأول في إمتحان الشهادة الثانوية و أضحي طبيباً مختصاً في أمراض الباطن و شقيقه محمد الفاتح والذي تخرج كذلك في جامعة الخرطوم مهندساً – تخصص في الاتصالات الفضائية و يعمل بالسعودية. خريجي مدرسة التميد كثير عددهم و تتنوع قبائلهم – لذلك مشاركتهم في العيد المئوي لها مشاركة في بناء نسيج السودان الجميل. كانت مدرسة التميد قومية بالفعل تجد فيها كل أبناء السودان- لذلك تداعي نفر من خريجيها و غيرهم لتطويرها و لانشاء مركز للتدريب المهني و لوضعها ضمن سجل التراث الانساني الذي ترعاه منظمة اليونسكو. لذلك نأمل من أجهزة الاعلام التنويه و الترويج لمثل هذا الجهد والاحتفاء بمثل هذه الأعمال لما فيها من وفاء و تعظيم للحس القومي و تنميته بين الأجيال. دعوة للجميع لهذا الجهد القومي الهام. إستجابت عديل المدارس لعمل صيانة بالمدرسة و تنتظر صوراً لها و نبذة تعريفية عنها – كذلك وعدت السيدة /وزيرة التربية و التعليم بولاية الجزيرة بوضعها ضمن برنامج الصيانة عند مشاركتها في مهرجان التميز و التفوق بالحلاوين في أكتوبر من عام 2014م. يتصدي لهذا العمل نفر من خريجي التميد:المهندس قسم السيد المبارك و المهندس محمد سعيد يوسف و السيد أبودقة و صلاح محمد الأمين و آخرين. علينا البدء في أعمال جادة للاصلاح و ليكن التعليم من الأولويات عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.