الخلاف حول مثلث حلايب الحدودي بين مصر والسودان، خلاف قديم متجدد. فقد اندلع خمس مرات في خلال 53 عاماً من استقلال السودان. ثلاث منها في عهد الإنقاذ،وواحدة في الديمقراطية الأولى في سنة 1958،حيث كان سكرتير حزب الأمة عبد الله خليل رئيساً للوزراء، وأوصل الخلاف إلى مجلس الأمن. والأخرى في سنة1981في عهد الرئيسين السادات ونميري، اللذين استطاعا احتواء الأزمة في بدايتها، فلم تتداع َ خارج نطاق هذه الدائرة الضيقة من المسئولين. وقد مثل التنقيب عن البترول وتخصيص الدوائر الانتخابية، الأسباب المباشرة لتكرار إثارة هذه المسألة،حيث يدعى كل طرف من أطراف النزاع ملكيته للمثلث المذكور. وفي كل مرة يثور فيها الخلاف، يدخل الجانبان في ملاسنات لاتقضي إلا إلي نبش الماضي واستدعاء الحاضر لالتقاط كل ما يعكر صفو العلاقات بين الشعبين. من ناحية أخرى، يلاحظ أولا: أن الخلاف حول حلايب لم يعالج أبدا كمشكلة حدودية، تحدث بين دول الجوار وتحسم إما بالتوافق بين الأطراف المتنازعة أو عن طريق التحكيم أو القضاء الدوليين. بل تنهج الدولتان سلوكاً خاصاً جداً: تجاهل المشكلة إلى أن تدفع بها الظروف إلى البروز، فيشتعل الموقف ويتعقد لمدة أسابيع ثم ينفرج، ويعود الحديث هنا وهناك عن الأشقاء وحسن الجوار، هذا الحديث الذي يظل كلاماً مرسلاً حتى تأتي الأزمة التالية لتعيد اختبار صحته. أما الملاحظة الثانية فهي أن الدولتين تنهجان نهجا مختلفا في مشاكلهما الحدودية مع الغير. ونذكر علي سبيل المثال السودان والنزاع حول قطاع جمبيلا ومنطقة الفشقة مع إثيوبيا، ومثلث إليمي مع كينيا، ومصر والنزاع السابق على ملكية واحة جغبوب مع ليبيا وطابا مع إسرائيل. بإقرار الرئيس الإثيوبي مليس زيناوي ووزير خارجيته بهذه الحقيقة. إلا أنه أفاد بأن اتفاقاً قد أبرم في سنة 1995 م بين السودان وإثيوبيا ينص على الآتي: "يتم توزع أرض هذه المنطقة، لحين ترسيم الحدود، بنسبة 75% للإثيوبيين و25% للسودانيين. وهو اتفاق لا ينطبق علي المنطقة شرق العطبراوي، التي دخلت فيها القوات الإثيوبية عام 1996م، نتيجة للتوتر بين الجانبين الذي أعقب محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك." إذاً مازالت هناك أراضي في شرق السودان في حوزة إثيوبيا. ويعالج السودان هذه المشكلة عن طريق الحوار الأخوي الهادئ مع الدولة الجارة، والذي انتهى، حسب تصريحات الجانبين بالاتفاق علي أن تصبح الفشقة منطقة تكامل بين الدولتين. وقد ترجم هذا الاتفاق في صورة مشروعات تكاملية فعلية في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية. النزاعات الحدودية المصرية نعرض في البداية حالة النزاع حول السيادة على واحة جغبوب. فمن المعلوم أن تحديد الحدود الغربية لمصر قد أخذ من الوقت ما يقرب من قرن من الزمان، من 1841م تحت حكم محمد علي حتى 1951وقت استقلال ليبيا. وقد تم أول اتفاق دولي عني بتحديد الحدود بين مصر وليبيا في 6/12/1925 في ظل الاحتلال الإيطالي لليبيا والتأثير البريطاني على مصر المستقلة بسبب التحفظات الأربعة على تصريح 28 فبراير 1922. وقد ضغطت بريطانيا على مصر لكى تتنازل عن واحة جغبوب لإيطاليا(ليبيا). وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تضافرت بعض الظروف المناسبة لتهيئ لمصر فرصة مناسبة لطلب إدخال تعديلات على خط الحدود المصري الليبي، فعرضت مطالبها في واحة جغبوب على مؤتمر الصلح بين إيطاليا والحلفاء المنتصرين سنة 1946، وأمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1949، ولكنها أخفقت في تحقيق هدفها. أما النزاع الحدودي بين مصر وإسرائيل فقد انتهى في صالح الجانب المصري. فبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد سنة 1978م ثم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في سنة 1979، بقى النزاع حول منطقة طابا الحدودية. فاتفق الجانبان على إحالة النزاع إلى التحكيم الدولى، وفي 29/9/1988 أصدرت هيئة التحكيم التي انعقدت في جينيف حكمها في صالح الجانب المصري واستردت مصر طابا في 19/3/1989. هاتان الملاحظتان تدفعا إلى الظن أن الخلاف بين مصر والسودان على المثلث الأزمة، هو في المقام الأول خلاف سياسي ثقافي معقد، وليس حدودياً خاضعاً لأساليب الحل القانونية المعروفة والمتاحة. ولعل المقارنة بين حالة حلايب والأمثلة الأخرى سالفة الذكر تؤكد ظني. النزاعات الحدودية السودانية طبق السودان مبدأين مختلفين في علاج مشكلتين متماثلتين هما مثلث إليمي مع كينيا وقطاع جمبيلا مع إثيوبيا. ولكنه على أية حال استخدم نفس المنهج الوفاقي التصالحي في كل منهما: كانت هناك إشكالية قانونية حول مثلث إليمي بين السودان وكينيا. فهو في الأصل جزء من الأراضي السودانية. ولأسباب طبيعية، أوكلت السلطات البريطانية إدارته إلى كينيا. وبمرور الزمن ضمته كينيا إليها، ثم تم تقنين الوضع، حين اعترف السودان بعد استقلاله، بتبعية المثلث إلى كينيا. وكان المبدأ الذي استند إليه السودان للتنازل عن حقه في إليمي، هو احترام قرار قمة منظمة الوحدة الأفريقية المنعقدة في القاهرة سنة 1964، والذي نص على احترام الحدود الموروثة من الاستعمار. أي أن السودان اعتبر أن إدارة كينيا الفعلية للمثلث أكسبتها السيادة عليه. أما قطاع جمبيلا، فيمثل حالة مشابهة لما سبق ذكره فيما عدا أن موقع السودان القانونى قد تبدل. فالقطاع في هذا المثال ملك لإثيوبيا، ووضع تحت الإدارة السودانية. ولكن السودان بعد الاستقلال أعاده طوعاً إلى إثيوبيا وانتهت المشكلة عند هذا الحد. وكان من المفترض، إذا أخذ السودان بنفس المبدأ الذي اعتمده وهو يعالج مشكلة مثلث إليمي، أن تنتقل السيادة على القطاع المذكور إلى السودان، وذلك بحكم التقادم في إدارة المنطقة. وهذا المبدأ هو ذاته الذي يعتمد عليه السودان في مطالبته بمثلث حلايب. ويدور النزاع الحدودي الثالث للسودان حول منطقة الفشقة وأراضي شرق العطبراوي.وهى أراضي سودانية لا تزال تحت السيطرة الإثيوبية. وقد يلخص الحوار الذي أجرته صحيفة "السودانى" في13/10/2009 مع السفير السوداني السابق في أديس أبابا عثمان السيد الوضع القائم هناك. فقد أكد السفير أن هذه الأراضي سودانية، واستشهد على ذلك. هكذا تدل الخبرات السابقة لمصر والسودان علي أنهما يسلكان في نزاعاتهما مع الغير الطرق القانونية المعروفة، إما بالوفاق كما فعل السودان، أو باللجوء إلي الهيئات الدولية المختصة كما فعلت مصر، وذلك حفاظاً على الاستقرار الإقليمي والتعاون بين دول الجوار. والسؤال الآن، لماذا لايطبق هذا المنهج على مثلث حلايب؟ ولماذا لا نعرض نزاعنا المشترك على التحكيم الدولى طالما فشلنا في التوافق كما فشلنا في التكامل؟ والغريب أن مصر تحتج بأن لا تحكيم على السيادة وقد حكمت على سيادتها في طابا، والسودان يحتج بإدارته الممتدة للمثلث وقد سلم قطاع جمبيلا طوعاً إلى إثيوبيا. إذاً فحلايب في رأيي ليست مسألة حدودية، بل هى أزمة سياسية ثقافية غاية في التعقيد لأنها تتصل بالبشر وبالتاريخ، ويظل هذا النزاع، على مدى نصف قرن، يتجاذب في تطوره، منظومة العلاقات المصرية السودانية بين الرفض والقبول والتحفظ والانفتاح. وتبقي الأمور بين الدولتين الجارتين تدور في دورات جهنمية، طاوية في طريقها، ببطء لكن بثبات، ماتبقي من مصالح بينهما. تعالوا نتحلى بالعقلانية ونعرض نزاعنا على التحكيم الدولى، فنبطل حجة حلايب ونواجه المسكوت عنه بيننا، وهو أزمتنا الحقيقية،هذا إذا أردنا للعلاقات المصرية السودانية أن تتحول إلى روابط أخوية فعلية، تخدم مصالح الشعبين وأمنهما القومي. أ.د.إجلال محمود رأفت أستاذ العلوم السايسية مدير برنامج الدراسات المصرية الأفريقية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة