وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السناتور بول ولستون (1944-2002): الأمريكي الوسيم .. بقلم: د. عبدالله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 19 - 02 - 2017

ربما رأينا كعرب ومسلمين وسائر المستضعفين لأول مرة وبوضوح كيف يمكن للديمقراطية الأمريكية أن تنتصر لنا كما لم تفعل من قبل (أو كما لم نراها تفعل). فالحركة الواسعة القائمة لمنع الرئيس ترمب من الفجور في خصومة المسلمين والعرب بيان كبير أن بنيان أمريكا على الديمقراطية مكين ربما حجبتهم عنا غلواء إيدلوجياتنا في الوطنية أو الإسلامية أو الماركسية فلم ننجح في بناء حلف صبور متفائل بأمريكا الليبرالية. فسرعان ما شطبنا هذا البلد العميق من قائمة النصراء وصارت بلداً "دنا عذابها". وأتاح لي وجودي في أمريكا سنوات طويلة أن أقف على وجوه غراء لها في محبة أمريكا مناهج تخشي عليها من نزعات التفلت الإمبريالي في مثل المكارثية وتطويق اليابانيين الأمريكان في المعسكرات خوف أن يستخبروا مع وطنهم الأم. ولا يخجل الأمريكي الآن من مثل خجله من هذا العار الوطني. بل خاض كتاب كثيرون في مخاطر الإمبريالية والشوفنية على إرث أمريكا الثوري الديمقراطي. ومن الوجوه البارة بأمريكا الليبرالية السناتور الراحل بول ولستون عن ولاية منيسوتا. وتجد حكايته أدناه:
كان من بين منظمي مظاهرة واشنطن الأخيرة ضد الحرب على العراق (2002) طالبة من جامعة ولاية كارولينا الشمالية اسمها ليزا مايسون رديز. اشترت ليزا تذكرة بعشرين دولاراً على البص المؤجر لنقل المتظاهرين من جابل هل، المدينة التي بها الجامعة، الي واشنطن. وكانت ليزا قد عبأت بعض هؤلاء الركاب بوقوفها أمام الإستاد الرياضي توزع المنشورات التي تحث الطلاب على المساهمة في الاحتجاج على الحرب. وامتلأت ثمان بصات بالتمام وتوجهت الي واشنطن. وكانت ليزا قد التمست من اساتذتها إعادة جدولة امتحانات نصف الفصل الدراسي لتتمكن من الدعوة للمظاهرة والاشتراك فيها. ولم يكن اساتذتها بأقل انزعاجاً منها من هول الحرب. فقد وقع 2700 من الأساتذة في 7000 جامعة على مذكرة مناهضة للحرب. وكان أساتذتها يقولون لها في طلاقة حبيبة في الأمريكيين متي ما صح لهم عزمك: "كلام زي العسل، عفارم عليك." وهنا محاولة عجوز من جانبي لترجمة كلمة "cool" المركزية في لغة الشباب هنا والتي تعني الغاية في البهاء وفي كل شيء.
لو استدبرنا الزمان 40 عاماً وأبقينا المكان حيث هو لكان الواقف في زوايا جامعة كارولينا الشمالية يحث الطلاب نحو معاني أخري في الخير والإنسانية هو بول ولستون عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الذي توفي قبل أسبوعين من الانتخابات التكميلية التي ترشح لها للمرة الثالثة عن الحزب الديمقراطي في ولاية منيسوتا. وقد أودت بحياته (1944-2002) خلال الحملة الانتخابية طائرة تحطمت به وبزوجه لقرابة الأربعين عاماً، شيلا، وبنته، مارسيا، التي بلغت من العمر 33 عاماً، وبعض أنصاره ومعاونيه. فقد التحق بول بجامعة كارولينا الشمالية في أول الستينات بفضل منحة للرياضيين من الجامعة. فقد كان يحسن المصارعة التي خلفت به ظلعاً يسيراً حتى مات به. فلم يكن بوسع والديه اليهود اللذين هاجرا من روسيا الانفاق على تعليمه الجامعي. وكان عقد الستينات كما هو معروف هو عقد الفعل الاحتجاجي السياسي علي اضطهاد السود الامريكيين ثم ضد حرب فيتنام ومازال العقد يرتسم في الأذهان ويلهم الشباب الامريكيين كلما استفظعوا سياسة بلدهم، وأرقهم مؤرق، ودعاهم الي الاحتجاج داع. وطابت السياسة لبول فحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية عن حركة الحقوق المدنية للسود التي حارب في صفوفها. وعثر على وظيفة في كلية للخاصة في ولاية منيسوتا هي كلية كارلتن. وظل مدرساً بالكلية حتى انتخابه لمجلس الشيوخ في 1990. وكان مدرساً عجبا. كان يحاضر الطلبة في الفصل ويقودهم في وغي السياسة في ما بين ذلك. فقد قاد نضالهم لسحب استثمارات الكلية في جنوب أفريقيا في الحملة المعروفة على أيام مناهضة الفصل العنصري في الثمانينات. وكان معهم يظاهر المزارعين المعسرين ضد البنوك التي بصدد تدليل مزارعهم بالجرس. وكان يقف مع العمال المضربين في خط صد أولئك الذين يريدون العودة من الاضراب، أو الذين ينتهزون فرصة الأضراب للحصول على عمل. ويمكن ترجمة اسم هذا الخط الي خط "حو" التي كان عمال عطبرة يحرجون بها من "تخاذل ليس منا". وقد بلغت قداسة هذا الخط عنده درجة رفض معها أن يدخل الكلية ليدرس طلبه في الفصل لأن الفراشين كانوا مضربين. ولقد أخذ طلابه إلى موضع خارج الكلية حتى لا تطأ قدمه فصلاً أضرب العمال عن نظافته. ولم ترغب الكلية في هذا المدرس السياسي ففصلته غير انهم أعادوه للعمل تحت ضغط طلابي عال.
حين طلعت علينا ليزا في مظاهرة واشنطن من موضع قديم كان الشيخ ولستون قد تلقي فيه مبادئ السياسة وجدت نفسي أتساءل: من أين يخرج علينا هؤلاء الأمريكيون الوسيمون والأمريكيات الوسيمات؟ فقد كان آخر صوت أدلي به بول في مجلس الشيوخ هو ذلك الذي اعترض فيه على تخويل الرئيس بوش شن الحرب على العراق كما أراد الرئيس أول مرة تلك الحرب بغير تفويض من المجتمع الدولي. وتشاء الصدف ان يكون أول صوت أدلى به في المجلس في 1991 هو ذلك الذي اعترض به على تفويض بوش الأب لشن حرب الخليج. فانظر طهر البدايات وحسن الخواتيم، لله دره. وكان قد فسر موقفه من رفض الحرب الأمريكية للعراق بقوله إنها ستكون دليلاً على شوكتنا أما إذا حملنا العالم على خوضها معنا فهذا دليل على قوتنا. وصوت ضد الحرب في أقلية من الشيوخ الديمقراطيين نفرها 22 عضوا من 51 عضواً وعدد قليل من الجمهوريين ومنهم من كانت دوائرهم مفتوحة للمنافسة للانتخابات التكميلية الاخيرة. وحتى لا يتضرر هؤلاء الشيوخ المقدمون على الانتخابات من كيد الحكومة والحزب الجمهوري تداعي لنصرتهم جماعة على شبكة الانترنت شغلها دعم المنشق السياسي حتى لا يخذل فينكسر وجمعت لهم 600 ألف دولار من عامة الناس. وكانت هذه الجماعة قد نشأت أول مره في 1998 لتنصر المنشقين الديمقراطيين الذين ادانوا الرئيس كلينتون لحجبه حقيقة أمره مع مونيكا عن سائليه في الدولة.
وقد نصح بول من جرؤ على نصحه ألا يصوت هذه المرة ضد الحرب في حين قبل بها أكثر الحزب ولأنه على وجه انتخابات تفاقمت قبلها النبرة والمشاعر الوطنية الضيقة وشدد فيها العتاة الغلاظ من دعاة الحرب النكير على المسالمين. وأخطر من ذلك أن كان مؤشر شعبيته في الولاية مائلاً للنقص عن منافسه. ولم يقبل بول بالدنيئة في عقيدته بالسلم وقال للناصحين إن صوته ضد الحرب لن يؤذيه في الانتخابات، وأن الذي سيطعن فيه حقاً أن يري الناس أنه لا يؤمن بما يدعو اليه، وأن صوته قد تغرب عنه وأصبح رهين المآرب السياسية العاجلة. وصوت بول ضد الحرب وصدق حدسه. وازدادت شعبيته في ترمومتر الرأي العام في ولاية منيسوتا لا للموقف خاص بها ضد الحرب وإنما لفرط شجاعة الرجل في زمن التقية والاسترضاء. وكانت من بين اللافتات التي ارتفعت من بين أكاليل الزهور التي حفت بمركزه الانتخابي، بعد ان تحول الي نصب للعزاء، من أشادت بصدقه مع نفسه ومع الناخبين. فقد كتب أحدهم "شكراً بول لأنك لم تخن حقيقتك" و"شكراً بول لأنك قلت للأعور أعور."
جاء بول الي مجلس الشيوخ، الذي يوصف بأنه نادي خاصة الخاصة، بشيء من غضب العامة واستهجانهم. فقد وفد اليه ببص أخضر متهالك وشغل به ثلاث مواقع من الحجم الصغير في موقف المجلس. ورأي الشيوخ في ذلك مساً من الهبل. كما أنه سأل صحفياً عن مطعم زهيد الأسعار في الجهة. ودله الصحفي على مطعم متواضع السعر إلا أن بول استنكر الأمر حين قيل له أن الوجبة قد تكلفه 15 دولاراً. ومن أصول الأصول في مجلس الشيوخ أن تؤثر الزمالة على الحق ليرضي عنك أعضاء النادي لا جمهوره. ولم يلتزم بول بهذه الأصول النكراء. فقد تبني مشروع قرار حجب به هدايا كان الشيوخ يتلقونها من أهل الحاجات عندهم. ولم يسعد الشيوخ بهذا التعريض بحق مكتسب. ومن أقواله في بدء أمره بالمجلس وصفه للشيخ جسي هلمز، الثعلب الجمهوري العجوز والذي لا يخفي كراهيته العصماء للأمم المتحدة، بأنه يجسد في نظره كل ما هو قبيح وخطأ ومقرف في السياسة. وقد بكاه الرجل يوم نعاه الناعي قائلاً كان بول صديقي وكنت صديقه. وكانا قد عملا معاً في ما بعد في صياغة مشروعات قوانين حول حقوق الإنسان في الصين وغير الصين.
لم يلبث أن هجر بول سطوح الغضب هذه الي الجوهر. فأتقن لعبة التشريع ومفاوضة الجمهوريين لبلوغ مشروعات قرارات للمجلس بالمسائل التي أولاها أكثر همه مثل علاج داء الباركينسون الذي أودي بحياة أبيه ومرضي الأعصاب. لقد توطن بول في همومه الشعبية حين نمت ملكاته وحيله في المجلس. وهو نمو وصفه صحفي محافظ بأنه قد عمق جذرية بول. فهو لم يجامل او يهن بالتراجع الي وسط سعيد في الحزب الديمقراطي كما فعل ويفعل سائر الديمقراطيين من ذوي الميول الشعبية الجذرية. وهو "تقهقر" يلقي ثناء المؤسسة الصحفية التي تعده دليلاً على الفطنة والنضج والدهاء. وقد أسرف الحزب الديمقراطي في هذا التقهقر الي الوسط السعيد حتى ذهبت ريحه في الانتخابات الأخيرة. اكتسب بول من المجلس مكرا ً أحسن به التعامل مع الخصم. وقد أثني عليه الصحفي المحافظ بقوله إن بول لم يكن يزعجه مع ذلك أن يكون الصوت النشاز في المجلس. فكثيراً ما كان التصويت 99 الي 1 وكان بول هو هذا الصوت الوحيد في البرية. وقد علم الجميع أنه لم يكن يصدر في ذلك عن غل أو شذوذ أو يأس كما هو الحال عند أكثر اليساريين. وقال عنه الصحفي المحافظ إن الكراهية لم تكن تعرف طريقاً الي نفسه. وهذه ميزات جعلته عضواً لا مهرب منه في مجالس الشيوخ. ومن آيات انشراحه للتقدم وتفاؤله به أنه، بحسب قول ذلك الصحفي، إنه لا يعد المحافظين أعداء وانما صيد موعود لليبرالية.
بكت أمريكا بول كما لم تبك أحداً مؤخراً. بكاه حتى خصومه الأشداء لوقاره في الثبات على ما قر في نفسه أنه الحق. وبدا لي أن بموته ضاع من بين يدي هذه الأمة همزة وصلها الضئيلة الي منشأها في الحرية، والكرامة، ونشدان السعادة، وأكثر ماضيها في الاشتغال بهذه المعاني ما وسعها. قال عنه التلفزيون العام إن برحيله فقد مجلس الشيوخ واحداً من أميز ممثلي غمار الناس في أمريكا. وقالت عنه النيويورك تايمز إنه كان صديقاً للمعلمين الله وللبيئة، وكان صوته يلتزم جانب الفقراء، ويناهض الذين وصفهم بالمغامرين أو المتاجرين بأرزاق الناس. ومضت الصحيفة تقول إنه صوت تضاءل فينا وخفت لثلاثين عاما ً(أي منذ أيام الستينات الجذرية) حتي "خرفناه". ونعته النيوزويك بقولها إنه قل أن وجد على أيامنا هذه رجل او امراة في الحياة العامة مثل بول استرد الاحترام لصناديق الاقتراع، ويفخر الناخبون بالتصويت له. وهذا القول هو بذاته وصفاته ما ورد عند قطب لحزب الجمهورية التركي، حزب أتاتورك، الذي علق على نصر اردخان والإسلاميين قائلاً إنه يتمني أن يردوا الأتراك الي احترام السياسة بعد ان زهدوا فيها.
من أسف ألا يكون بيننا بول في هذه الأيام التي يفد الي الحكم في بعض بلاد العالم بعض ربعه ممن استردوا للسياسة مشروعها في حكم محاسب أمام الشعب. وهم مثله لم تكن ولادتهم في الفقر سبباً للانتهازية وفصما للعروة الوثقي مع حلم الشعب بالسعادة وجهاده الذي ما فتر لنيلها. لقد بارحنا بول في منطقة الفاصل (التفاصيل في لغة العامة وهي الأيام التي بين المواسم) بين دولة الصفوة القابضة المفترية وبين دولة الشعب. وهي فترة سماها عالم سياسة تركي بموت السياسة كما علمناها وجربناها من قبل. كما أنتهز موظف صغير في البرازيل سانحة فوز لولا العامل الصناعي برئاسة البرازيل ليقول لعل الصفوة الحاكمة تعي هذه الرسالة التي جاءتهم من الشعب. وقد زكا لولا الي صحيفة النيويورك تايمز بائع عرقسوس قائلاً: "لقد ذاق الفقر صغيراً، إنه ينتمي الي الشعب." وقد استنكر آخر التلويح بكرت التطرف الديني في وجه اردخان. وقال إن أصل المسألة في الاقتصاد لا الدين. وأن لجوء هذه الصفوة الحاكمة الي الدس باسم التطرف الديني كان بسبب ضيق صدرها بانتخاب رجل لا يحسن الإنجليزية، وفي أصله فقر أضطره الي بيع الليمونادة ليعين أهله على العيش.
لقد بكت أمريكا في فقد بول محنتها السياسية والأخلاقية الكبرى للطريقة التي تحولت بها ديقراطيتها الي دولة للأغنياء منهم، تتسيطر عليها نخبة سياسية تتوارث الحكم ولداً عن والد، وغني عن غني يصرف الملايين المملينة على انتخاباته من حر جيبه. والمصطلح في تسمية مثل هذه الطبقة هو "البلوتكراسي." وكان الدكتور محمد هاشم عوض قد بدأ ينظر في مصادر قبضة هذه الطبقة في السودان في كتاب أصدره عام 1968 ولم نصبر على قراءته في زحمة انقلاب مايو الذي أذهلنا عن السياسة وعلمها، وزجنا في الجهل المسلح بها. ولم يعد نقد هذه البلوتكرسي قاصراً على شراذم اليساريين ممن كان هذه رأيهم دائماً وأبدا. فقد نهض ضد سلطان المال في الانتخابات شيخ في سابقة الجمهوري ماكين في حرب فيتنام والمنزلة السياسية الذي جعل مسألة الصرف البذخي على الانتخابات عنوان حملته الانتخابية حين نافس بوش في الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري لانتخابات رئاسة الجمهورية. وقد نجح مع زملاء له في استصدار تشريع يحرم المرشحين من قبول تبرعات الجماعات والهيئات المعروفة ب "المال الميسور" والتي تجري على المرشحين بغير حساب او سقف. وقد تأذت النيويورك تايمز من الحيل التي تتبعها الأحزاب، التي وصفتها بإدمان هذا المال الحرام، للالتفاف على القانون. وقد حذرت الجريدة الأحزاب من استعباط الناس والتشريع لأن من شأن حيلهم هذه أن تضرب بعرض الحائط الجهود المخلصة الطويلة التي سعت لاسترداد العقل والشرف للسياسة في أمريكا. وبدا لي أن رد السياسة إلي الشرف والعقل هي عاطفة مشبوبة حرى تؤرق الأمريكيين الذين يؤمنون بأن بلدهم يستحق حظاً وقدراً أميز مما تجيء به الانتخابات عندهم مرة بعد مرة بعد مرة. وقد وجدت هذه العاطفة السياسية تعبيراً لها في مأتم الأمريكيين الشفيف على بول. فقد أصبحت سيرة بصه المدرسي الأخضر القديم الذي استعمله في انتخابه الأول رمزاً لقوة العقيدة على المال. فقد قيل إن خصم بول في تلك الانتخابات أنفق 7 مليون دولار في حين لم يزد انفاق بول على مليون دولار. وكثيراً ما وردت قصة اعلانه في التلفزيون الذي يظهر فيه بول داعية لنفسه ولكن بعبارة سريعة تشبه صوت شريط فديو مسترجع أو مستعجل سريع ومتحشرج. وينتهي الإعلان بقوله إنه اضطر الي هذه السرعة في الحديث عن برنامجه الانتخابي لأنه لا يملك المال الذي عند خصمه بدعايته الواسعة. لقد رأي الناس في الرجل، في تواضع امكاناته وجهره بالحق، سبباً للأمل أن السياسة ستعود من ضلالها بين الأغنياء الي سوح غمار الناس. ولذا كان يصوت له جمهوريون ومسيحيون محافظون أشاوس سحرهم بوقاره وعلو صوته بالحق والتزامه المسكنة والمساكين مما يطالعونه في نصوصهم المقدسة في حين لا يجدون له أثراً في سياستهم أو سياسييهم. وكانوا يخفون هذا المروق عن ملة المحافظين بالتصويت لبول حتى لا يكتشف جيرانهم أنهم "يساريون". وقد ذكر أحد بكاة بول له قصر القامة (وكان الرجل قصيرا في ولاية من الطوال الذين أصولهم اسكندنافية) وشموخ الصوت فقال: "مهما كان طول بول فلم أر اضخم منه جثة لأنه كان يملأ أقطار الغرف التي يكون فيها." وكان كما نقول القصير بلاع الطوال.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.