الزراعة والري تصدر إنذاراً أحمر بخطورة قصوى لفيضانات متوقعة    البرهان يتفقد مدينتي بارا والأبيض    بعد الخماسية.. أصوات صراخ وبكاء في غرفة ريال مدريد    المريخ يسقط أمام لوبوبو بعد طرد مثير للجدل!    بالفيديو.. بعشرة لاعبين المريخ يخسر أمام سان لوبوبو في ذهاب الدوري التمهيدي لإبطال أفريقيا.. شاهد ملخص المباراة وفرص المريخ الضائعة    (الجاموس لن يكون عصياً على نجوم الأسياد)    كريستال بالاس يذيق ليفربول مرارة الأهداف القاتلة    السودان..وفاة وزير سابق    اشتباكات عنيفة داخل صفوف ميليشيا الدعم السريع وأنباء عن مقتل قائد بارز    رئيس الوزراء يلتقي وزير الخارجية الروسي بمقر الأمم المتحدة في نيويورك    كوريا الشمالية تقترب من تطوير صاروخ نووي قادر على ضرب أمريكا    بعد عودة علاقاته مع ترامب.. ماسك يفوز بعقد حكومي لتوريد «غروك»    بسبب خلاف بين كلب وقطة.. أغرب قصة طلاق زوجين في الهند    جبريل يزور القائد/ شيبة ضرار    وزير الشباب والرياضة يمهّد لشراكات استراتيجية لدعم اقتصاديات الشباب ومعالجة قضاياهم    القبض على 3 أصحاب مخابز استولوا على أموال الدعم    حقيقة إعفاء المصريين من الرسوم الجمركية للهواتف المحمولة    الحدث الأكبر في الشرق الأوسط.. قطر تفوز باستضافة بطولة العالم للكرة الطائرة للرجال 2029    رئيس إتحاد المهن الموسيقية يعلق على قرار فصل الفنانة عشة الجبل: (فقدت عضويتها بسبب عدم الالتزام باللوائح)    والي سنار يصدر قراراً بتكليف صلاح قلاديمة مديراً لمنشأة سنار عاصمة الثقافة الإسلامية    النجمة العالمية ريانا تستقبل مولودها الثالث    ضبط شخص بالإسكندرية ينصب على المواطنين بزعم قدرته على العلاج الروحاني    والي نهر النيل يطلع على ترتيبات دخول خمسة آلاف فدان للموسم الشتوي في محلية البحيرة    الاهلي مدني في مواجهة حاسمة أمام النجم الساحلي في سوسة    أشاد بوقفة الشرفاء من القانونيين والاعلاميين ..دكتور برقو: طريق الخلاص شاق وصعب وسنمضي فيه حتى ينبلج الفجر    شاهد بالصورة والفيديو.. برئاسة "حميدتي".. اجتماع لحكومة تأسيس فوق "البرش" وأمام "كفتيرة الشاي" في غياب "الحلو" وساخرون: (سبحان الله من القصور للبروش)    شاهد بالصورة.. السلطانة هدى عربي تهدي نفسها آيفون 17 وتقول: (هديتي لعيد ميلادي اشبكوني مبروك دسيس)    الطاهر ساتي يكتب: حمى الصراع ..(2)    شاهد بالفيديو.. "عندكم أولاد وأمهات".. الفنانة ندى القلعة تحسم الصراع الدائر والحرب المشتعلة بين المطربتين عشة الجبل وهبة جبرة    شرحبيل أحمد... ملك الجاز السوداني الذي حوّل الجيتار إلى جواز سفر موسيقي    الرواية... الفن والدور السياسي    تلاعب أوكراني بملف القمح.. وعود علنية بتوسيع تصديره لأفريقيا.. وقرارات سريّة بإيقاف التصدير    بعد تسجيل حالات..السلطات الصحية في الشمالية تطلق صافرة الإنذار    إغلاق مقر أمانة حكومة جنوب دارفور بنيالا بعد غارات جوية    حسين خوجلي يكتب: بعد جرح الدوحة أليس من حقنا أن نتسائل أين اليمين العربي؟    اللجنة المالية برئاسة د. جبريل إبراهيم تطمئن على سير تمويل مطلوبات العودة لولاية الخرطوم    كندا وأستراليا وبريطانيا تعترف بدولة فلسطين.. وإسرائيل تستنفر    مياه الخرطوم تطلق حملة"الفاتورة"    10 طرق لكسب المال عبر الإنترنت من المنزل    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السناتور بول ولستون (1944-2002): الأمريكي الوسيم .. بقلم: د. عبدالله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 19 - 02 - 2017

ربما رأينا كعرب ومسلمين وسائر المستضعفين لأول مرة وبوضوح كيف يمكن للديمقراطية الأمريكية أن تنتصر لنا كما لم تفعل من قبل (أو كما لم نراها تفعل). فالحركة الواسعة القائمة لمنع الرئيس ترمب من الفجور في خصومة المسلمين والعرب بيان كبير أن بنيان أمريكا على الديمقراطية مكين ربما حجبتهم عنا غلواء إيدلوجياتنا في الوطنية أو الإسلامية أو الماركسية فلم ننجح في بناء حلف صبور متفائل بأمريكا الليبرالية. فسرعان ما شطبنا هذا البلد العميق من قائمة النصراء وصارت بلداً "دنا عذابها". وأتاح لي وجودي في أمريكا سنوات طويلة أن أقف على وجوه غراء لها في محبة أمريكا مناهج تخشي عليها من نزعات التفلت الإمبريالي في مثل المكارثية وتطويق اليابانيين الأمريكان في المعسكرات خوف أن يستخبروا مع وطنهم الأم. ولا يخجل الأمريكي الآن من مثل خجله من هذا العار الوطني. بل خاض كتاب كثيرون في مخاطر الإمبريالية والشوفنية على إرث أمريكا الثوري الديمقراطي. ومن الوجوه البارة بأمريكا الليبرالية السناتور الراحل بول ولستون عن ولاية منيسوتا. وتجد حكايته أدناه:
كان من بين منظمي مظاهرة واشنطن الأخيرة ضد الحرب على العراق (2002) طالبة من جامعة ولاية كارولينا الشمالية اسمها ليزا مايسون رديز. اشترت ليزا تذكرة بعشرين دولاراً على البص المؤجر لنقل المتظاهرين من جابل هل، المدينة التي بها الجامعة، الي واشنطن. وكانت ليزا قد عبأت بعض هؤلاء الركاب بوقوفها أمام الإستاد الرياضي توزع المنشورات التي تحث الطلاب على المساهمة في الاحتجاج على الحرب. وامتلأت ثمان بصات بالتمام وتوجهت الي واشنطن. وكانت ليزا قد التمست من اساتذتها إعادة جدولة امتحانات نصف الفصل الدراسي لتتمكن من الدعوة للمظاهرة والاشتراك فيها. ولم يكن اساتذتها بأقل انزعاجاً منها من هول الحرب. فقد وقع 2700 من الأساتذة في 7000 جامعة على مذكرة مناهضة للحرب. وكان أساتذتها يقولون لها في طلاقة حبيبة في الأمريكيين متي ما صح لهم عزمك: "كلام زي العسل، عفارم عليك." وهنا محاولة عجوز من جانبي لترجمة كلمة "cool" المركزية في لغة الشباب هنا والتي تعني الغاية في البهاء وفي كل شيء.
لو استدبرنا الزمان 40 عاماً وأبقينا المكان حيث هو لكان الواقف في زوايا جامعة كارولينا الشمالية يحث الطلاب نحو معاني أخري في الخير والإنسانية هو بول ولستون عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الذي توفي قبل أسبوعين من الانتخابات التكميلية التي ترشح لها للمرة الثالثة عن الحزب الديمقراطي في ولاية منيسوتا. وقد أودت بحياته (1944-2002) خلال الحملة الانتخابية طائرة تحطمت به وبزوجه لقرابة الأربعين عاماً، شيلا، وبنته، مارسيا، التي بلغت من العمر 33 عاماً، وبعض أنصاره ومعاونيه. فقد التحق بول بجامعة كارولينا الشمالية في أول الستينات بفضل منحة للرياضيين من الجامعة. فقد كان يحسن المصارعة التي خلفت به ظلعاً يسيراً حتى مات به. فلم يكن بوسع والديه اليهود اللذين هاجرا من روسيا الانفاق على تعليمه الجامعي. وكان عقد الستينات كما هو معروف هو عقد الفعل الاحتجاجي السياسي علي اضطهاد السود الامريكيين ثم ضد حرب فيتنام ومازال العقد يرتسم في الأذهان ويلهم الشباب الامريكيين كلما استفظعوا سياسة بلدهم، وأرقهم مؤرق، ودعاهم الي الاحتجاج داع. وطابت السياسة لبول فحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية عن حركة الحقوق المدنية للسود التي حارب في صفوفها. وعثر على وظيفة في كلية للخاصة في ولاية منيسوتا هي كلية كارلتن. وظل مدرساً بالكلية حتى انتخابه لمجلس الشيوخ في 1990. وكان مدرساً عجبا. كان يحاضر الطلبة في الفصل ويقودهم في وغي السياسة في ما بين ذلك. فقد قاد نضالهم لسحب استثمارات الكلية في جنوب أفريقيا في الحملة المعروفة على أيام مناهضة الفصل العنصري في الثمانينات. وكان معهم يظاهر المزارعين المعسرين ضد البنوك التي بصدد تدليل مزارعهم بالجرس. وكان يقف مع العمال المضربين في خط صد أولئك الذين يريدون العودة من الاضراب، أو الذين ينتهزون فرصة الأضراب للحصول على عمل. ويمكن ترجمة اسم هذا الخط الي خط "حو" التي كان عمال عطبرة يحرجون بها من "تخاذل ليس منا". وقد بلغت قداسة هذا الخط عنده درجة رفض معها أن يدخل الكلية ليدرس طلبه في الفصل لأن الفراشين كانوا مضربين. ولقد أخذ طلابه إلى موضع خارج الكلية حتى لا تطأ قدمه فصلاً أضرب العمال عن نظافته. ولم ترغب الكلية في هذا المدرس السياسي ففصلته غير انهم أعادوه للعمل تحت ضغط طلابي عال.
حين طلعت علينا ليزا في مظاهرة واشنطن من موضع قديم كان الشيخ ولستون قد تلقي فيه مبادئ السياسة وجدت نفسي أتساءل: من أين يخرج علينا هؤلاء الأمريكيون الوسيمون والأمريكيات الوسيمات؟ فقد كان آخر صوت أدلي به بول في مجلس الشيوخ هو ذلك الذي اعترض فيه على تخويل الرئيس بوش شن الحرب على العراق كما أراد الرئيس أول مرة تلك الحرب بغير تفويض من المجتمع الدولي. وتشاء الصدف ان يكون أول صوت أدلى به في المجلس في 1991 هو ذلك الذي اعترض به على تفويض بوش الأب لشن حرب الخليج. فانظر طهر البدايات وحسن الخواتيم، لله دره. وكان قد فسر موقفه من رفض الحرب الأمريكية للعراق بقوله إنها ستكون دليلاً على شوكتنا أما إذا حملنا العالم على خوضها معنا فهذا دليل على قوتنا. وصوت ضد الحرب في أقلية من الشيوخ الديمقراطيين نفرها 22 عضوا من 51 عضواً وعدد قليل من الجمهوريين ومنهم من كانت دوائرهم مفتوحة للمنافسة للانتخابات التكميلية الاخيرة. وحتى لا يتضرر هؤلاء الشيوخ المقدمون على الانتخابات من كيد الحكومة والحزب الجمهوري تداعي لنصرتهم جماعة على شبكة الانترنت شغلها دعم المنشق السياسي حتى لا يخذل فينكسر وجمعت لهم 600 ألف دولار من عامة الناس. وكانت هذه الجماعة قد نشأت أول مره في 1998 لتنصر المنشقين الديمقراطيين الذين ادانوا الرئيس كلينتون لحجبه حقيقة أمره مع مونيكا عن سائليه في الدولة.
وقد نصح بول من جرؤ على نصحه ألا يصوت هذه المرة ضد الحرب في حين قبل بها أكثر الحزب ولأنه على وجه انتخابات تفاقمت قبلها النبرة والمشاعر الوطنية الضيقة وشدد فيها العتاة الغلاظ من دعاة الحرب النكير على المسالمين. وأخطر من ذلك أن كان مؤشر شعبيته في الولاية مائلاً للنقص عن منافسه. ولم يقبل بول بالدنيئة في عقيدته بالسلم وقال للناصحين إن صوته ضد الحرب لن يؤذيه في الانتخابات، وأن الذي سيطعن فيه حقاً أن يري الناس أنه لا يؤمن بما يدعو اليه، وأن صوته قد تغرب عنه وأصبح رهين المآرب السياسية العاجلة. وصوت بول ضد الحرب وصدق حدسه. وازدادت شعبيته في ترمومتر الرأي العام في ولاية منيسوتا لا للموقف خاص بها ضد الحرب وإنما لفرط شجاعة الرجل في زمن التقية والاسترضاء. وكانت من بين اللافتات التي ارتفعت من بين أكاليل الزهور التي حفت بمركزه الانتخابي، بعد ان تحول الي نصب للعزاء، من أشادت بصدقه مع نفسه ومع الناخبين. فقد كتب أحدهم "شكراً بول لأنك لم تخن حقيقتك" و"شكراً بول لأنك قلت للأعور أعور."
جاء بول الي مجلس الشيوخ، الذي يوصف بأنه نادي خاصة الخاصة، بشيء من غضب العامة واستهجانهم. فقد وفد اليه ببص أخضر متهالك وشغل به ثلاث مواقع من الحجم الصغير في موقف المجلس. ورأي الشيوخ في ذلك مساً من الهبل. كما أنه سأل صحفياً عن مطعم زهيد الأسعار في الجهة. ودله الصحفي على مطعم متواضع السعر إلا أن بول استنكر الأمر حين قيل له أن الوجبة قد تكلفه 15 دولاراً. ومن أصول الأصول في مجلس الشيوخ أن تؤثر الزمالة على الحق ليرضي عنك أعضاء النادي لا جمهوره. ولم يلتزم بول بهذه الأصول النكراء. فقد تبني مشروع قرار حجب به هدايا كان الشيوخ يتلقونها من أهل الحاجات عندهم. ولم يسعد الشيوخ بهذا التعريض بحق مكتسب. ومن أقواله في بدء أمره بالمجلس وصفه للشيخ جسي هلمز، الثعلب الجمهوري العجوز والذي لا يخفي كراهيته العصماء للأمم المتحدة، بأنه يجسد في نظره كل ما هو قبيح وخطأ ومقرف في السياسة. وقد بكاه الرجل يوم نعاه الناعي قائلاً كان بول صديقي وكنت صديقه. وكانا قد عملا معاً في ما بعد في صياغة مشروعات قوانين حول حقوق الإنسان في الصين وغير الصين.
لم يلبث أن هجر بول سطوح الغضب هذه الي الجوهر. فأتقن لعبة التشريع ومفاوضة الجمهوريين لبلوغ مشروعات قرارات للمجلس بالمسائل التي أولاها أكثر همه مثل علاج داء الباركينسون الذي أودي بحياة أبيه ومرضي الأعصاب. لقد توطن بول في همومه الشعبية حين نمت ملكاته وحيله في المجلس. وهو نمو وصفه صحفي محافظ بأنه قد عمق جذرية بول. فهو لم يجامل او يهن بالتراجع الي وسط سعيد في الحزب الديمقراطي كما فعل ويفعل سائر الديمقراطيين من ذوي الميول الشعبية الجذرية. وهو "تقهقر" يلقي ثناء المؤسسة الصحفية التي تعده دليلاً على الفطنة والنضج والدهاء. وقد أسرف الحزب الديمقراطي في هذا التقهقر الي الوسط السعيد حتى ذهبت ريحه في الانتخابات الأخيرة. اكتسب بول من المجلس مكرا ً أحسن به التعامل مع الخصم. وقد أثني عليه الصحفي المحافظ بقوله إن بول لم يكن يزعجه مع ذلك أن يكون الصوت النشاز في المجلس. فكثيراً ما كان التصويت 99 الي 1 وكان بول هو هذا الصوت الوحيد في البرية. وقد علم الجميع أنه لم يكن يصدر في ذلك عن غل أو شذوذ أو يأس كما هو الحال عند أكثر اليساريين. وقال عنه الصحفي المحافظ إن الكراهية لم تكن تعرف طريقاً الي نفسه. وهذه ميزات جعلته عضواً لا مهرب منه في مجالس الشيوخ. ومن آيات انشراحه للتقدم وتفاؤله به أنه، بحسب قول ذلك الصحفي، إنه لا يعد المحافظين أعداء وانما صيد موعود لليبرالية.
بكت أمريكا بول كما لم تبك أحداً مؤخراً. بكاه حتى خصومه الأشداء لوقاره في الثبات على ما قر في نفسه أنه الحق. وبدا لي أن بموته ضاع من بين يدي هذه الأمة همزة وصلها الضئيلة الي منشأها في الحرية، والكرامة، ونشدان السعادة، وأكثر ماضيها في الاشتغال بهذه المعاني ما وسعها. قال عنه التلفزيون العام إن برحيله فقد مجلس الشيوخ واحداً من أميز ممثلي غمار الناس في أمريكا. وقالت عنه النيويورك تايمز إنه كان صديقاً للمعلمين الله وللبيئة، وكان صوته يلتزم جانب الفقراء، ويناهض الذين وصفهم بالمغامرين أو المتاجرين بأرزاق الناس. ومضت الصحيفة تقول إنه صوت تضاءل فينا وخفت لثلاثين عاما ً(أي منذ أيام الستينات الجذرية) حتي "خرفناه". ونعته النيوزويك بقولها إنه قل أن وجد على أيامنا هذه رجل او امراة في الحياة العامة مثل بول استرد الاحترام لصناديق الاقتراع، ويفخر الناخبون بالتصويت له. وهذا القول هو بذاته وصفاته ما ورد عند قطب لحزب الجمهورية التركي، حزب أتاتورك، الذي علق على نصر اردخان والإسلاميين قائلاً إنه يتمني أن يردوا الأتراك الي احترام السياسة بعد ان زهدوا فيها.
من أسف ألا يكون بيننا بول في هذه الأيام التي يفد الي الحكم في بعض بلاد العالم بعض ربعه ممن استردوا للسياسة مشروعها في حكم محاسب أمام الشعب. وهم مثله لم تكن ولادتهم في الفقر سبباً للانتهازية وفصما للعروة الوثقي مع حلم الشعب بالسعادة وجهاده الذي ما فتر لنيلها. لقد بارحنا بول في منطقة الفاصل (التفاصيل في لغة العامة وهي الأيام التي بين المواسم) بين دولة الصفوة القابضة المفترية وبين دولة الشعب. وهي فترة سماها عالم سياسة تركي بموت السياسة كما علمناها وجربناها من قبل. كما أنتهز موظف صغير في البرازيل سانحة فوز لولا العامل الصناعي برئاسة البرازيل ليقول لعل الصفوة الحاكمة تعي هذه الرسالة التي جاءتهم من الشعب. وقد زكا لولا الي صحيفة النيويورك تايمز بائع عرقسوس قائلاً: "لقد ذاق الفقر صغيراً، إنه ينتمي الي الشعب." وقد استنكر آخر التلويح بكرت التطرف الديني في وجه اردخان. وقال إن أصل المسألة في الاقتصاد لا الدين. وأن لجوء هذه الصفوة الحاكمة الي الدس باسم التطرف الديني كان بسبب ضيق صدرها بانتخاب رجل لا يحسن الإنجليزية، وفي أصله فقر أضطره الي بيع الليمونادة ليعين أهله على العيش.
لقد بكت أمريكا في فقد بول محنتها السياسية والأخلاقية الكبرى للطريقة التي تحولت بها ديقراطيتها الي دولة للأغنياء منهم، تتسيطر عليها نخبة سياسية تتوارث الحكم ولداً عن والد، وغني عن غني يصرف الملايين المملينة على انتخاباته من حر جيبه. والمصطلح في تسمية مثل هذه الطبقة هو "البلوتكراسي." وكان الدكتور محمد هاشم عوض قد بدأ ينظر في مصادر قبضة هذه الطبقة في السودان في كتاب أصدره عام 1968 ولم نصبر على قراءته في زحمة انقلاب مايو الذي أذهلنا عن السياسة وعلمها، وزجنا في الجهل المسلح بها. ولم يعد نقد هذه البلوتكرسي قاصراً على شراذم اليساريين ممن كان هذه رأيهم دائماً وأبدا. فقد نهض ضد سلطان المال في الانتخابات شيخ في سابقة الجمهوري ماكين في حرب فيتنام والمنزلة السياسية الذي جعل مسألة الصرف البذخي على الانتخابات عنوان حملته الانتخابية حين نافس بوش في الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري لانتخابات رئاسة الجمهورية. وقد نجح مع زملاء له في استصدار تشريع يحرم المرشحين من قبول تبرعات الجماعات والهيئات المعروفة ب "المال الميسور" والتي تجري على المرشحين بغير حساب او سقف. وقد تأذت النيويورك تايمز من الحيل التي تتبعها الأحزاب، التي وصفتها بإدمان هذا المال الحرام، للالتفاف على القانون. وقد حذرت الجريدة الأحزاب من استعباط الناس والتشريع لأن من شأن حيلهم هذه أن تضرب بعرض الحائط الجهود المخلصة الطويلة التي سعت لاسترداد العقل والشرف للسياسة في أمريكا. وبدا لي أن رد السياسة إلي الشرف والعقل هي عاطفة مشبوبة حرى تؤرق الأمريكيين الذين يؤمنون بأن بلدهم يستحق حظاً وقدراً أميز مما تجيء به الانتخابات عندهم مرة بعد مرة بعد مرة. وقد وجدت هذه العاطفة السياسية تعبيراً لها في مأتم الأمريكيين الشفيف على بول. فقد أصبحت سيرة بصه المدرسي الأخضر القديم الذي استعمله في انتخابه الأول رمزاً لقوة العقيدة على المال. فقد قيل إن خصم بول في تلك الانتخابات أنفق 7 مليون دولار في حين لم يزد انفاق بول على مليون دولار. وكثيراً ما وردت قصة اعلانه في التلفزيون الذي يظهر فيه بول داعية لنفسه ولكن بعبارة سريعة تشبه صوت شريط فديو مسترجع أو مستعجل سريع ومتحشرج. وينتهي الإعلان بقوله إنه اضطر الي هذه السرعة في الحديث عن برنامجه الانتخابي لأنه لا يملك المال الذي عند خصمه بدعايته الواسعة. لقد رأي الناس في الرجل، في تواضع امكاناته وجهره بالحق، سبباً للأمل أن السياسة ستعود من ضلالها بين الأغنياء الي سوح غمار الناس. ولذا كان يصوت له جمهوريون ومسيحيون محافظون أشاوس سحرهم بوقاره وعلو صوته بالحق والتزامه المسكنة والمساكين مما يطالعونه في نصوصهم المقدسة في حين لا يجدون له أثراً في سياستهم أو سياسييهم. وكانوا يخفون هذا المروق عن ملة المحافظين بالتصويت لبول حتى لا يكتشف جيرانهم أنهم "يساريون". وقد ذكر أحد بكاة بول له قصر القامة (وكان الرجل قصيرا في ولاية من الطوال الذين أصولهم اسكندنافية) وشموخ الصوت فقال: "مهما كان طول بول فلم أر اضخم منه جثة لأنه كان يملأ أقطار الغرف التي يكون فيها." وكان كما نقول القصير بلاع الطوال.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.