منذ أن صار للمرأة يوماً عالميٍاً يخصها (1908) تتسارع وتتباري نساء العالم في عمل ورصد المنجزات التي تضيف الي مسيرة تطوير وانعتاق، المرأة والمجتمع من الظلم والظلمات على حد سواء، مسيرة تنقل المرأة وتنتقل بها مساحةً وقامةً، حتي اذا أتي ذلكم اليوم صار استحقاقا ومنبرا للاحتفاء والاحتفال بتلك المنجزات واستلهاما للمزيد منها . هذا ما كان ولا يزال من أمر النساء في مجتمعات صار فيها كل ركل وتحقير للفظ المرأة، أياً كانت، ليس من دلالات العنف وانتهاك حقوق الانسان فحسب بل من صنوف الجريمة العالمية والابتذال الذكوري. نمد اليوم أيدينا، مباركين ومهنئين، كل النساء، لما حققنه في مجالات الإنسانية، ونهنئ العالم أجمع لتوافقه علي قيم الآدمية، من خلال المواثيق والاعلانات الحقوقية التي خرجت بعد مسيرة نضالٍ طويلةٍ شاقة منذ عصور ضاربة في القدم ، شاركت فيها شعوب العالم التي تؤمن بالمساواة بين البشر، نساءاً ورجالا،ً شرطاً للتقدم والازدهار. السؤال الذي يهمنا كسودانيين: هل كنا يوما جزءاً أو امتداداً لتلك الشعوب التي تري في الانسان قيمة لا ترتبط بلونه، بجنسه، بدينه، بنوعه، بثقافته، بمستواه الاجتماعي، أوبالجهة التى منها؟ لعل ما يحدث للإنسان في دولة السودان، وللمرأة علي وجه الخصوص، يمثل إجابة سالبة علي ذلك السؤال. فقد اضحى من وقائع حياة المراة في دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق أن تضرب، تُطعن، تُغتصب ، ، تُذل الى حد الاستعباد ويُحرق منزلها ايضا لاجبارها على التشرد بدول الجوار، وليس امامها هنالك سوى اللجوء الى المعسكرات في أرض غريبة في بيئة تواجة فيها المزيد من التعرض لصنوف الهوان والاستغلال. أما تلك التي لم تعثر على سانحة الهروب بعيدا فقد كتب عليها أن تكون لاجئة داخل بلادها ، هائمة بأطراف المدن أو لائذة داخل مغاور جبلية ليست صالحة لسكنى الانسان، لتكون مع أطفالها لقمة سائغة لهوام الأرض وأشباح الظلام. تداهمها مع أطفالها المسغبة بشتى تجلياتها المستبشعة التي تشمل من كان عليها رعايتهم من أبٍ، وأُمٍ، وكبار السن من عمٍ وخالٍ وجار، بعد أن كانت تملك الأرض والزرع والضرع والمحصول وتمتهن مهنة إشباع الجائع، قائماً كان أم ضيف. عطشت بعد أن كانت تسقي العطشى بما تجلبه، راجلة أم راكبة حمارا في الغالب، من مسافات لا تتحملها نساء المدينة، من ماء تخرجه بمشقةٍ، بالدلو، من آبار عمقها يبلغ أحياناً الأربعين مترا ويزيد. ألمأساة المضافة أن المزارعات المنتجات اللاتي وجدن أنفسهن تحت رحمة كأس الإغاثة تمد اليهن من اخوة في الانسانية قدموا من خارج حدود الوطن والدين، مشفقين لا مكابرين، وممتعاطفين لا شامتين! قد واجهن مرة أخرى ذات الغاصب والطاعن والحارق والقاتل اذ استخدم سطوته كي يحول دون وصول الاغاثة ! لأن مطلوبه ومسعاه ان تظل هذه المرأة على الدوام في معطن الحاجة والآلام والبؤس والكآبة، تسكنها وتتغذي عليها، تنتجها وتعيد انتاجها في رعبٍ وانهزاميةٍ، مقصود بها أن تنزلق علي أجيال النزوح واللجوء – تلكم هي المعاول التي قُصدت أن تقوم مقام آلة الإبادة الجماعية الهادئة والممتدة الي عمق الايام. لآ أزال اذكر شذرات من مجمل أحاديثٍ داميةٍ لمجموعةٍ من نساء معسكر أبشوك النازحات من منطقة طويلة منذ العام 2004واللائي ربطتني بهن علاقة طيبة وجلسات للُانس والسمر. كلنا يتذكر عندما هوجمت طويلة في العام 2004 هجوماً شرساً براً بالجيش والجنجويد، وجواً بالطائرات التي أكملت حلقة الدماروالرعب، فلم تبق ولم تذر. ظني أن تلك القرية الصغيرة الوادعة ما كانت لتحتاج الي كل تلكم الآلة والصرف الحربي ما لم يكن الأمر كان مبطناً بأكثر مما هو مجرد مطاردة لجماعة مسلحة وصفت وقتها بأنها لا تتعدي قطاع طرق. حجم الدماركان غريباً قياساً بواقع حال الحركات حينها - فقد اُستهدف كل شخصٍ صغيراً كان ام كبيرا، ذكرا أم انثي، وحتي الحيوانات والطيورلم تسلم. أما الزرع فحدِث ولا حرج، خاصة وأن طويلة كانت تعد من أكثر المناطق انتاجيةً ولن تتمني أن تري جمالاً للطبيعة يفوق جمال وبهاء مزارع طويلة في موسم الخريف وأنت متجه من الفاشرأو كبكابية صوب طويلة. عندما ضُرِبت النساء بالعصي والهراوات في ذلك اليوم، وطردن، وهن راكضات صوب الفاشر في مسافة 60كلم، منهن من أنجبن على قارعة الطريق ، ومنهن من سقط جنينها، وبالكاد وصلت الاخريات منهارات الأنفس والأجسام. قبيل المغادرة حاولت كل امرأة أن تأخذ ما تستطيع حمله إما علي رأسها أو علي ظهرها كما جرت العادة في مثل هذه الظروف الكارثيةً. وبديهي أن يكون الأطفال الرضع هم أول من يُحمل علي الظهور. عندما خرج مواطني الفاشر لاستقبال أهل طويلة بعد أن منعهم الجنود، فقد رفض أهل طويلة الذهاب مع أقربائه بحجة صعوبة استضافتهم بواسط الأهل بالفاشر، وبطبيعة علاقاتهم اختاروا البقاء، كما عهدوا، معاً في السراء والضراء. ثم بعدها ذهبوا الي المشتل حيث كان أول معسكر للنزوح بالفاشر. عند وصول النساء منهكات مستنزفات، أخذت كل امرأة تحل وسطها لتنزل طفلها علي الأرض، ولكن تفاجأت احداهن بما أنزلته، اذ لم يكن طفلاً وإنما كان مجرد مخدة!!! وللقارئ أن يتخيل هول هذا المنظر والشعورويطرح كل الآسئلة! ذهلن النساء، بينما فغرت الام فاهها وأُغشي عليها لتقوم بعدها فاقدةً الوعي والعقل. ماذا كنت تفعلين/تفعل لو كنت مكانها، أباها، زوجها، أم أخاها؟ فبماذا نهنئ أنفسنا نحن النساء السودانيات داخل وخارج السودان وهذا الواقع المريرلا يزال يجثم علي صدورنا؟ أعلي تعبيرات الأسف والنقاشات التي لا تغادر اربعات الجدران، والتي لا تزيل هما ًولا تشفي سقماً؟ أم علي مظاهرات النساء الاسلاميات التي خرجت وقوفا مع أدعاء النظام بأن لا يوجد إغتصاب في دارفور؟ ماذا فعلت نساء السياسة الشرعية، من منتسبي هذه المناطق خاصة ، وممن تبوأن مكانا عليا في دهاليزالحكم والحكام ، ماذا فعلن لتغيير هذا الواقع؟ أم أن لسان حالهن ينبئ بأنهن لا يعصين أمرا، ويفعلن ما يؤمرن، توافقا مع شروط الوظيفة. ذلك الواقع يجعلنا قاب قوسين أو أدني من السقوط في مستنقع الاستسلام الكلي للبؤس والقهر والمرارات، دون حول ولا قوة، ونكاد دوما لا نجد مندوحةً من أن نجهش بالبكاء والعويل علي قلة حيلتنا. ولكن ما بين الموت البطئ والغفوة، ترتد الينا نذيراً من روح اذ نري بصيصاً يطل من تحت الركام يضئ لنا وجهة وإن لم نتبينها جيداً ولكننا نتأسي بها ولو الي حين. فتلك الديار قد هباها الرحمن بيئات متنوعة الإنتاج، وأشجاراً تختلف مواسم اخضرارها وإزهارها، فكلما يبست شجرة، نبتت اخري، بشيراً كان أم نذيرا، أكثر اخضراراً ونواراً. فهؤلاء نساء دارفور قد بذلن الروح في سبيل الكرامة، ليس من أجل دارفور بل السودان قاطبة. نقف الآن ترحما علي فقيدة النساء والنضال والكرامة، الأستاذة المحامية ثريا دلدوم التي فارقتنا في يوليو 2009، تحت ظروف لم نستوعبها غير انها صارت كآلاف النساء الاخريات، شهيدة النساء والكلمة والكرامة. التحية لشهيدات بلادي، من قتلت بالرصاص منهن،أو من قتلت بأداة اخري من أدوات القهر والقتل ففارقت الحياة أو مازالت تحتضر. التحية لكل من تبنت صوت الحق فأُخرست، وسٌجنت وعُذبت، وعاني أهلها، دون مراعاة لنوعها، لعمرها أو لقيم الإنسانية وحقوق الإنسان وثقافة حماية المرأة في السودان: لك التحية أستاذة تسنيم أحمد الزاكي ولكل من شاركك المحنة داخل وخارج المعتقل من ضحايا الحرب والنضال، وأعلمي بأن الله هو المقدر وهو القادر وعيناه لا تنام. التحية لنساء وطني، لامهات الوجع والألم والأنين في مناطق الحرب في دارفور، جبال النوبة والنيل الأزرق ، ولكل من تعرضت لمعاول القهر والقتل، تحملت الآلام والإحن، واستطاعت أن تهزم شعور الاستسلام لتستمر في معركة الحياة، فردا كانت هي أم اسرة، نازحة أم لاجئة. ** د-سعاد موسى عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.