تهدهد نيانات كير بين ذراعيها طفلتها الباكية التي تنشقت أنفاسها الأولى قبل أيام من ولادة أحدث بلد في أفريقيا والعالم سينفصل بعد مخاض طويل عن السودان. فالطفلة الصغيرة، التي لم تسم بعد، ستكبر في دولة مستقلة تدعى جمهورية جنوب السودان، والطريق شاق أمام كلتيهما. فمع نيل الجنوب استقلاله الكامل عن حكم الشمال السبت المقبل، سينضم هذا البلد الغني بالنفط والفقير من الناحية التنموية إلى مصاف بلدان معدمة كأفغانستان والصومال في ذيل القائمة العالمية من حيث مستويات الصحة والرعاية الاجتماعية. وتمكنت نيانات كير فعلاً من تحقيق معجزة ببقائها على قيد الحياة، ففي جنوب السودان يموت من النساء خلال الحمل ومخاض الولادة عدد أكبر من أي بقعة أخرى في العالم. ويقول الطبيب الذي يعمل مع صندوق الأممالمتحدة للسكان ألكسندر ديميتي: «لا يجب أن تموت امرأة وهي تدفع بحياة جديدة إلى النور، لكن مع الأسف في بلدي جنوب السودان يوجد أعلى معدل لوفيات الأمهات في العالم». ويضيف ديميتي الذي يعاون وزارة الصحة على تدريب القابلات: «بل الأسوأ هو أن النساء يمتن بسبب مضاعفات لدى الطب القدرة على تجنبها». فبعد حرب استمرت عقوداً مع الشمال، والتي بالكاد انتهت العام 2005، لم يعد لدى جنوب السودان سوى ثماني قابلات، أي بمعدل قابلة لكل مليون نسمة. واليوم تضاعف العدد لكنه مازال لا يتجاوز مئة قابلة. وتحسين الصحة لن يكون سوى عقبة بين عقبات عدة على الجنوب تجاوزها. فالمنطقة بين الأقل تنمية في أفريقيا وتواجه تحديات جساماً مع مولد أمة جديدة، تبدأ بضرورة تحلي سياسييها وعسكرييها بالنزاهة وتنتهي ببناء المدارس والطرق والمستشفيات. ويقول جو فيني الذي يترأس برنامج الأممالمتحدة للتنمية في الجنوب: «ثمة توقعات ضخمة، وتحديات أضخم... لقد عانى شعب الجنوب معاناة هائلة، خلفت جرحاً ليس جسدياً فحسب، بل في وجدان جيل ونيف بعد أكثر من 50 سنة من الحرب». ومازال الوضع اليوم غير مستقر، إذ قضى 1800 شخص ونزح 150 ألفاً جراء العنف منذ بداية العام الجاري، وفق تقديرات الأممالمتحدة، كما أن معدلات الأمية في الجنوب فلكية، فقرابة 90 في المئة من النساء لا يستطعن القراءة والكتابة. والتنمية مازال أمامها مشوار طويل في منطقة تربو مساحتها عن مساحة إسبانيا والبرتغال معاً، وطرقها إن وجدت غير معبدة بل دروب موحلة خلال الأشهر المطيرة الممتدة. الواقع أن أول طريق معبد يمتد من أي مدينة في الجنوب يجري شقه الآن من العاصمة جوبا باتجاه الحدود الأوغندية. وعاد أكثر من 300 ألف نسمة إلى الجنوب من الشمال منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ويتوقع عودة المزيد من النازحين. ويقول برنامج الأممالمتحدة للغذاء إنه ساهم في إطعام ما يقرب من نصف سكان الجنوب العام الماضي، أي نحو أربعة ملايين نسمة. وثمة استياء متنام من الافتقار إلى البنية التحتية فضلاً عن اتهامات بفساد مستشر وسرقة لأموال النفط الجنوبية. ويقول ألان ماكدونالد من منظمة «اوكسفام» للإغاثة: «طرأ تقدم منذ نهاية الحرب لكنه لا يواكب إطلاقاً المستوى المطلوب مع شعور الناس بإحباط متزايد لتباطؤ النمو. لقد بذل العالم الكثير من الوقت والجهد لبلوغ هذه المرحلة ولا يمكن أن يخفق الآن في اجتياز عقبته الأخيرة». القضايا الرئيسة العالقة تتصاعد التوترات بمحاذاة الحدود مع أعداء الحرب الأهلية السابقين في الشمال، فقد أجبر 110 ألاف شخص على الفرار إلى الجنوب بعد اجتياح القوات الشمالية منطقة أبيي الحدودية المتنازع عليها في أيار (مايو) الماضي. ومازال يتعين التوصل إلى اتفاقات لازمة لتقاسم النفط، وما يتعلق بالديون وترسيم الحدود فضلاً عن حل دائم لأبيي وقضايا أخرى. ويتوقع محللون أن يكون هذا العام هو الأعنف منذ نهاية الحرب قبل ست سنوات، إذ يخشون مما هو آت. ويقول مدير الشؤون الإنسانية في اللجنة الدولية للإغاثة جيري مارتون: «نحن في شهر عسل الآن... لكن ما يقلقنا هو ما جرى في آخر مرة استقل بلد في أفريقيا وكان أريتريا العام 1993. في أول الأمر سارت الأمور حسناً ثم بعد أربعة أعوام اندلعت الحرب». ومازالت رشادة الحكم أمراً مهماً، فالسلطة تتركز في أيدي «الحركة الشعبية لتحرير السودان» التي تشكل قوامها من المتمردين السابقين الذين امسكوا زمام الأمور. ووصفت مجموعات معارضة مسودة دستور انتقالي مقترح بأنها «ديكتاتورية». ويقول متمردون على «الحركة الشعبية» في الجنوب إنهم يقاتلون للانقلاب على الحكومة الجديدة، فيما يتهمهم المسؤولون الجنوبيون بأنهم ليسوا سوى أصابع داخلية لنظام الخرطوم يسعى من خلالها إلى السيطرة على حقول النفط بمحاذاة الحدود مع الجنوب. وتحدث صحافيون عن تعرضهم لحالات تحرش واعتقالات وضرب، كما حذر تجمع من الناشطين في تقرير الشهر الماضي من «بوادر أولى غير مشجعة من قبيل الدفع بتغييرات دستورية من دون مشاورات وفرض قيود على الصحافيين وتركيز السلطة في الرئاسة ولجوء الجيش إلى العنف بدل الوساطة في النزاعات مع المتمردين». ولايزال الأمن قضية رئيسة، حيث تتهم جماعات حقوق الإنسان أفراداً من الجيش الجنوبي بارتكاب مجازر وعمليات اغتصاب مع انتقاله من جماعة متمردين إلى قوة نظامية. فقد أورد التقرير أن «ما يتردد عن عمليات النهب والتحرش بالمدنيين بل والإعدام من دون محاكمة يعد مبعث قلق بالغ». كما حذر من «النزوع نحو الاستبداد» في الجنوب مع تركز السلطة والمال في جوبا وابتلاع الأمن لنصيب الأسد من الموازنة. وترفض الحكومة تلك التقارير وإن اعترفت بوجود مخالفات أثناء الانتقال الصعب من أسلوب حرب العصابات إلى نظام حزب حاكم. وفي بيان حكومي رسمي نشر قبل الاستقلال، أصر الجنوب على أنه «سيتخذ الخطوات الممكنة كافة» لحماية السلام وترسيخه من أجل شعبه. وبعد مراسم الاحتفال وتدشين الدولة الجديدة يبقى غاية ما تتمناه نيانات كير هو أن يتاح لابنتها ذات الأيام القلائل ما حرمت هي منه. وتقول الأم: «غاية ما أريده أن تنعم ابنتي بالسلام