اكمل يوم امس الرئيس السوداني عمر البشير عامه الثالث والعشرين في السلطة ويكون بذلك الرئيس الأطول بقاء في الحكم في تاريخ السودان، بل يتفوق بكثير على رؤساء سابقين كانوا يعدون ممن طال بقاؤهم مثل الرئيس جعفر نميري الذي حكم لستة عشر عاماً. طول البقاء في الحكم يورث تبعات كثيرة منها صعوبة التكهن بمن يخلف الرئيس. وقد ثبت ذلك بعد إعلان الرئيس البشير أنه لن يترشح في الدورة الانتخابية القادمة، فلم يبرز على الفور مرشح بارز في دوائر الحزب الحاكم باعتباره الرئيس القادم.. هذه الحالة تجعل مرشح الحزب الحاكم في الانتخابات القادمة أقل قوة وأقل فرصاً من سلفه الذي استمد كثيراً من قوته من إجماع الحزب عليه. وهو وضع يكشف أن الأمر لم يعد محصوراً في المؤتمر الوطني وحده فقد ارتخت كثيراً قبضته الأمنية وقوته السياسية بما يجعل المعارضة تطمح في تقديم مرشح قد يهزم مرشح الحزب الحاكم الذي أنهكته الأزمات. وتبرز آراء أخرى لا تركز على الأشخاص بقدر ما تركز على مواصفات تخرج المعركة من سباق بين الحكومة والمعارضة وما يفرزه من استقطاب حاد قد يعيد إنتاج الأزمة بدلاً عن تجاوزها. يرى هؤلاء ضرورة ظهور شخصية توافقية تخرج البلاد من حالة الشد والجذب بين الحكومة والمعارضة من جهة والحكومة وجنوب السودان من جهة أخرى. من أبرز الشخصيات الوطنية القومية التي شكلت حضوراً لافتاً في الفترة الأخيرة د.التجاني السيسي. لم يبرز بوصفه قائد حركة التحرير والعدالة الموقع على اتفاقية الدوحة للسلام، فهذه حلقة لاحقة في مسيرة الرجل الذي لم يظهر فجأة على المسرح السياسي، فقد سبق أن كان حاكماً لدارفور الكبرى في فترة الديمقراطية الثالثة، كما عمل في منظمة الأممالمتحدة؛ لذلك لم تكن نظرته الخاصة لمشكلة دارفور مستغربة، فأدرك أبعاد المشكلة في دارفور وأدرك في ذات الوقت أخطاء الحركات المسلحة في معالجة المشكلة. لفت الأنظار أيضاً عبدالرحمن الصادق المهدي.. ارتبط قراره بالمشاركة في السلطة بإثارة خاصة، فقد شاع في السودان أن الصادق المهدي رجل متردد تردداً أفسد عليه قدرات لا تنكر، فلما حسم عبدالرحمن أمره بالمشاركة في السلطة كان كمن أظهر صفة ضرورية في السياسي طالما انتظرها الناس من والده. وقد يقول قائل كان من الممكن أن تظهر ميزة الحسم هذه في قرار آخر، فالمشاركة في هذه السلطة ليست محمدة. وقد يكون البعد عنها بالتردد أفضل من التورط فيها بالحسم، لكن يمكن الرد على هذا القول إن عبدالرحمن الثاني قال بلسان حاله إن المشاركة ليست خطأً مطلقاً حسب القول الشائع الذي كاد يصبح من مسلمات السياسة السودانية، وأثبت بسلوكه العملي إمكانية إبراز مواقف إيجابية بدون التورط في التبعية لحزب المؤتمر الوطني. قال في لقاء تلفزيوني بثقة واستقلالية إن للنظام إيجابيات كبيرة ولم يندلق ليغرق في بحر المبالغات فأوضح رؤيته القومية في الحل الشامل بدون أن يعتبر قبول النظام بها شرطاً للتوافق وحلاً سحرياً لا يملك الوطن غيره. مشاركة عبدالرحمن الصادق بصفته الشخصية لا ممثلاً لحزب الأمة أعطته البعد القومي وجعلته قريباً من دوائر كثيرة خارج دائرة حزب الأمة وكيان الأنصار بما فيها المؤتمر الوطني، مع احتفاظه بالرمزية الأنصارية. ويزيد أيضاً من فرص عبدالرحمن انتماؤه للمؤسسة العسكرية التي تمنحه بعداً قومياً آخر. في شخصيتي التجاني السيسي وعبدالرحمن الصادق ارتباط ولو كان خفيفاً أو سابقاً بحزب الأمة، وهو ما قد يبعدهما عن المزاج الاتحادي الذي تحمله جماهير الوسط النيلي ذات العداء التاريخي مع الدولة المهدية، حتى أن بعض المؤرخين يرون أن محور الحركة الاتحادية ليس الاتحاد مع مصر، بل العداء للمهدية.. هؤلاء يبحثون عن شخصية خالية تماماً من ملامح الأنصار وحزب الأمة. قد يجدون ضالتهم في شخصيات تمثل مزاجهم وتوجهاتهم، شخصيات تقبلها مصر ولا ترفضها السعودية أو قطر. وتتوفر صفات كهذه في شخصيات الوسط النيلي الذي لاحقه اتهام احتكار السلطة منذ الاستقلال. يعود أنصار المؤتمر الوطني لساحة النقاش قائلين إن شرط الشخصية التوافقية لا يخرجهم تماماً من مضمار السباق؛ حيث يمكن للحزب أن يقدم أحد معتدليه ممن عرفوا بالتواصل مع بقية القوى السياسية والبعد عن العنف اللفظي. وقد يقدم هذا المرشح المحتمل برنامجاً توافقياً فيه قدر كبير من التنازل بحيث لا تكون الحكومة خالصة للمؤتمر الوطني وإن جاء على رأسها قيادي منه.. هذا الاحتمال يبرز اسم د.إبراهيم غندور بشخصيته المعتدلة مع توفر القدرات اللازمة فيه. فقد عرف بسعة الأفق والصدر وعفة اللسان واليد. وهو قريب من القوى المعارضة ومن المزاج السوداني. المفاجآت السودانية التي لا تنقضي قد تأتي برجل أو امرأة مثلما أتت بالبشير، بل وأبقته لثلاث وعشرين سنة ولما ينته حكمه بعد.