إلى نهاية فترة الستينيات كان المرء اذا اراد ان يطلق عدة طلقات من بندقية (خرطوش).. بمناسبة فرح.. كان يتقدم بطلب مكتوب الى سلطات المجلس المحلي فيتم التصديق له كتابة بذلك مع تحديد عدد الطلقات ومكان المناسبة السعيدة.. ولا يتم هذا التصديق إلاّ لمن يملك بندقية مصدق له استعمالها ولها رخصة سارية المفعول.. وترسل صورة من تصديق (اطلاق النار) الى شرطة المنطقة لمتابعة الأمر - ولم يكن مسموحاً على الاطلاق باطلاق (الرصاص) الحي.. حتى من قبل المنتسبين الى القوات النظامية.. وكان السلاح لا يسلم الى هؤلاء المنتسبين إلاّ عند الخروج الى تدريب او مأمورية.. أو عمليات.. وكان يسمح في حدود حمل مسدسات صغيرة لكبار الضباط في هذه الاجهزة وبضوابط صارمة.. واذكر انني عندما كنت في جهاز أمن الدولة صرف لي مسدس صغير.. وبعد ان وقعت على عدة ارانيك.. وعندما تم تعييني بعد ذلك محافظاً للبحر الأحمر - وصلني خطاب رقيق من رئاسة جهاز أمن الدولة.. وطلبوا مني تسليم المسدس رقم كذا والذي تسلمته يوم كذا الى وحدة أمن الدولة.. وتسلموه مني فعلاً.. وارسلوا لي خطاباً بذلك.. ما زلت احتفظ به. وعندما استقبلتُ الفلسطينيين الذين خرجوا من مدينة بيروت بعد الحرب في بورتسودان - كانت معهم كميات مهولة من الاسلحة الخفيفة - وفي احتفال جماهيري كبير اهدوا لي احد المدافع الرشاشة الخفيفة - وتسلمته من قائدهم.. وتسلمه مني فوراً السيد مدير شرطة المحافظة.. ومازال محفوظاً لديهم الى يومنا هذا.. أكثر من خمسة وعشرين عاماً.. لم يكن آنذاك - لأحد - من المسؤولين حراس بالسلاح.. من أهل بيته اذ لم تكن توجد أزمة الثقة في احد وكان يحرس منزل الحاكم أو الوزيرأو المحافظ رجل شرطة واحد (يتُمم) عليه حكمدار الدورية كل عدة ساعات ليتأكد من وجوده. هكذا كان الموقف.. فكيف اليوم؟؟ عانى سكان الخرطوم - العاصمة - كثيراً من تواجد مليشيات مسلحة داخل العاصمة - ونترك الاقاليم والولايات لبعض الوقت - وامتلأت الصحف بأنباء الذين يقيمون في هذه العاصمة مناطق نفوذ وبوابات.. ومناطق يحظر فيها التحرك.. لوجود فصيل معين او لوجود قادة احد هذه الفصائل واصبح منظر حملة السلاح عادياً في بعض احياء العاصمة التي يقيم فيها قادة المليشيات.. ومكاتبهم.. ولقد حدثت مواجهات عنيفة بين هذه المليشيات والقوات النظامية الحكومية.. ومات فيها العديد من الجانبين.. ومازالت هذه الآثار موجودة - بالرغم من الجهود الخارقة التي بذلت لازالتها.. وآخر مثال لذلك هو استشهاد عقيد شرطة في الاسبوع الماضي وهو يؤدي واجبه.. أما عن الولايات فيكفي ان نستمع الى تقرير الاممالمتحدة أو إحدى الوكالات المتخصصة بأن قطع السلاح - المحصورة - في الجنوب لا تقل عن ثلاثة ملايين قطعة.. كما قرأت تقريراً آخر يقول بأن حوالي ثمانمائة مواطن جنوبي قتلوا خلال عملية نزع السلاح.. ولكن لم يتم نزعه الى اليوم.. والدليل على ذلك الاعداد الكبيرة من المواطنين الجنوبيين الذين يموتون في النزاعات القبلية العادية والقديمة ولكن الجديد هو استخدام الاسلحة الحديثة التي خلفتها حرب الجنوب سواء بواسطة القوات الصديقة للحكومة أو الصديقة للحركة الشعبية أو التي ليست صديقة لأحد ولكن تمكنت من الحصول على السلاح وتستخدمه لاغراضها الخاصة.. فتارة مع الحكومة.. واحياناً ضدها.. وأكثر الاوقات لتصفية حسابات قبلية. والوضع في دارفور.. لا يختلف كثيراً عن ذلك.. فالسيد مني اركو مناوي.. المساعد الأول لرئيس الجمهورية وهو قيادي كبير رئيس ورئيس فصيل مسلح كبير واعتقد انه قال إن السلاح قد انتشر في دارفور.. وان هنالك اربع قطع سلاح مقابل كل مواطن او فرد في دارفور.. وهذه شهادة نقبلها لأهمية شاهدها.. فكم عدد القطع التي لا يعرف عنها السيد مساعد الرئيس عنها شيئاً وهي بالتأكيد موجودة - ومن الصعب حصرها جميعاً.. وهي في ازدياد مع التوتر الموجود والتدخل الاجنبي من دول الجوار.. وابعدها.. فاذا كانت الفصائل تقدر في دارفور بثمانية واربعين فصيلاً قابلة للزيادة.. وهنالك فصائل (فردية) تعمل لحسابها الخاص في السلب والنهب.. بعيداً عن الفصائل.. فهل تعيش دارفور في بحر من السلاح بكل انواعه؟. وحتى اعود الى اجابة السؤال.. العنوان.. كيف انتشر السلاح في السودان؟ ابدأ بشرق السودان.. حيث ان أول منطقة في السودان لترويج السلاح وبيعه بدأت هنالك.. خاصة بعد ان اعترفت الحكومات المتعاقبة في السودان بحركات الكفاح المسلح الاريترية.. ضد نظام هيلاسلاسي بعد ثورة أكتوبر.. وبذلك سُمح للاريتريين بحمل السلاح في السودان بل وتوريده عبر الساحل السوداني الى المقاتلين الاريتريين كما سُمح بعد ذلك لبعض المعارضين للنظام الاثيوبي.. ومنهم - التقراي وحكام اليوم وباقامة معسكرات تدريب وتموين.. داخل الاراضي السودانية.. ومع تداخل القبائل بين اريتريا والسودان.. والحدود المفتوحة على مصراعيها.. نشطت حركة امتلاك السلاح واستخدامه.. وحدثت الطامة الكبرى عندما بدأت النزاعات المسلحة تظهر بين الجبهات الاريترية وفصائلها المختلفة.. أو التي تضطر الى تفكيك جيشها.. يتخلون عن اسلحتهم بابخس الاثمان.. واحياناً يتركونها عمداً في العراء لكي يتمكنوا من دخول المدن السودانية كمدنيين عاديين فوقعت اسلحتهم في ايدي تجار السلاح.. أو سكان المناطق الذين يخفونها في اماكن آمنة.. وهكذا بدأت تجارة السلاح في شرق السودان. والمفارقة الغريبة ان منطقة دارفور في تلك الفترة كانت خالية تماماً من السلاح.. فجاء الى الشرق بعض اهل دارفور.. لشراء السلاح المنتشر في الشرق.. ثم يتم تهريبه الى دارفور.. اي ان أول اسلحة الى دارفور جاءت من شرق السودان للاستخدام الشخصي غالباً.. للدفاع عن النفس.. بعد دخول بعض المسلحين وبعض الاسلحة من جنوب السودان الى اطراف هذه المنطقة.. ولم تكن الحرب الاهلية التشادية.. والصراع على السلطة في تشاد.. والنزاع مع ليبيا وهي العوامل التي نشرت السلاح في دارفور متوافرة في تلك الفترة. إلاّ ان تجارة السلاح قد راجت في شرق السودان.. وتوسعت بعد الحرب الاهلية الكبرى والتي قادها تحالف الجبهة الشعبية الاريترية وجبهة التقراي (اصدقاء الامس واعداء اليوم).. وبين الجبهات الاريترية الاخرى خاصة المجلس الثوري بقيادة أحمد ناصر.. وقوات التحرير الشعبية برئاسة عثمان صالح سبي.. حيث اشترك في هذه الحرب عشرات الآلاف من المقاتلين على الحدود السودانية الاريترية الى ان تمت تصفية المجلس الثوري ودخلت قواتهم السودان بحوالي عشرة ألوية مسلحة بكامل معداتهم.. وبالرغم من ان القوات المسلحة قد وضعت يدها على كثير من هذه الاسلحة إلاّ ان آلاف القطع تسربت الى ايدي المواطنين وتجار السلاح في المناطق الحدودية النائية. واذا عدنا الى جنوب السودان فان السلاح كان كله تقريباً بيد انيانيا الأولى بقيادة اللواء جوزيف لاقو وبعد اتفاقية اديس ابابا.. تم التحفظ علىه كله واستوعبت كل قواته - القادرة - في الجيش السوداني ولم يكن مسموحاً لاحد في الجنوب بحمل السلاح بعد الاتفاقية وعاش الجنوب عشر سنوات من السلام.. لا تمرد ولا قتال عنيف بين القبائل. إلاّ ان الانتشار الاكبر للسلاح في السودان قد حدث بعد اتساع الحرب بين حكومة الانقاذ والحركة الشعبية وامتداد هذه الحرب حيث شملت كل الجنوب.. وجبال النوبة.. وجنوب النيل الازرق.. وشرق السودان.. وشهدت الحرب دعماً مباشراً من الولاياتالمتحدة وبعض المنظمات والتجمع الوطني عن طريق دول الجوار حسب التوجيه الامريكي.. إذ يرى الامريكيون ان السودان يشكل تهديداً للأمن القومي الامريكي. ولكل ذلك قصة اخرى؟ والله الموفق،،، نواصل