تقع منطقة 'أبيي' في ولاية جنوب كردفان، وتبلغ مساحتها نحو أحد عشر ألف كيلومتر مربع، وهي في هذه المرحلة منطقة نزاع بين الحكومة السودانية وحكومة جنوب السودان، وسيزداد الخلاف حول هذه المنطقة بعد حصول جنوب السودان على استقلاله من الشمال في شهر تموز/يوليو المقبل، وتعتبر منطقة 'أبيي' وطنا لقبيلة دينكا نقوك في جنوب السودان، ولكن القبيلة ذات الأصول العربية المسيرية تأتي إلى هذه المنطقة من أجل الرعي، وذلك ما يجعل هذه المنطقة منطقة خلاف بين الشمال والجنوب إلى جانب كونها تشتمل على أهم حقول النفط السودانية، وكانت اتفاقية نيفاشا التي وقعت بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية في عام ألفين وخمسة قد نصت على أن يجرى استفتاء لتحديد تبعية هذه المنطقة، ولكن الاستفتاء لم يتحقق لأن الطرفين يعلمان أن نتيجته لن تكون بالأهمية التي حددتها الاتفاقية. وحتى لو كان لهذا الاستفتاء أهمية فإن الجنوبيين يرفضون تصويت المسيرية في هذا الاستفتاء ما يعني أن قصر الاستفتاء على الجنوبيين له نتيجة واحدة هي الانضمام إلى الجنوب، وذلك ما لا تقبل به حكومة الشمال التي قالت على لسان الرئيس عمر حسن البشير إنها مستعدة لأن تعلن الحرب على الجنوب لمجرد تضمين دستوره الانتقالي فقرة تقول أن 'أبيي' تنتمي إلى جنوب السودان. وعلى الرغم من هذا النزاع الذي يحتل النفط دورا كبيرا في تأجيجه فإن هناك كثيرا من الدلائل على أن نفط 'أبيي' يتقلص بدرجة كبيرة، وحتى لو لم يكن كذلك فإن خط تصدير النفط يمر بالضرورة إلى ميناء بورتسودان عبر مناطق شمال السودان، ولو لم يكن الأمر كذلك فإن الخيار البديل هو أن يمر النفط عبر بعض دول شرق أفريقيا ما يعقد المسألة لجنوب السودان بشكل أكبر إذا تم له الإنفراد بمنطقة 'أبيي'. وتستند حكومة الشمال في تحديدها لتبعية منطقة أبيي على بروتوكولات ماشاكوس التي وقعت في عام ألفين واثنين والتي حددت حدود جنوب السودان بتلك التي كانت عند استقلال البلاد في عام ألف وتسعمئة وستة وخمسين. ولم يكن من الممكن لحكومة شمال السودان أن توافق في الأساس على بروتوكول ينص على مبدأ الاستفتاء في منطقة 'أبيي ' لولا الضغوط الأمريكية التي مارسها 'دانفورث' على حكومة السودان التي كانت تواقة إلى تحسين علاقاتها مع الولاياتالمتحدة لأسباب إستراتيجية تتعلق بنظام الحكم. ولا شك أن موقف حكومة الخرطوم أصبح معروفا الآن، وما يحتاج إلى توضيح هو موقف الجنوبيين من هذه القضية والذي نستجليه من الدراسة القيمة التي كتبها 'خميس كات ميول' والذي يهمنا في هذه الدراسة الجزء الثالث منها والذي يتناول جذور الصراع وتطوره. يقول خميس إن النزاع بين المسيرية والدينكا حول المراعي وسرقة الأبقار ظل قائما منذ القرن الماضي وكان يحل في معظم الأوقات بأسلوب الأجاويد أي الوسطاء الذين يجلسون مع بعضهم بعضا يتدارسون الأمر ويصلون فيه إلى الحلول المناسبة، وكان زعيم الدينكا في ذلك الوقت 'دينق كوال أروب' والذي يعرف 'بدينق مجوك' على علاقة حسنة مع نطيره 'بابو نمر' ناظر المسيرية، ولكن هذه العلاقة الطيبة تراجعت لأسباب مختلفة، ويرى خميس أن تدخل حكومة المركز لعبت دورا مهما في تراجع هذا المستوى من العلاقات، ويذهب خميس إلى أن تأييد القبائل العربية للصادق المهدي وانتصار حزب الأمة في الانتخابات في غرب السودان جعل الصادق يدعم بشكل كبير قبائل المسيرية في مواجهة الدينكا، وقد أمد الصادق المهدي المسيرية بكميات كبيرة من الأسلحة النارية بحسب رأي خميس استخدمت خلال مرحلة الصراع المسلح بين الشمال والجنوب، ولم يختلف الأمر كثيرا من وجهة نظره خلال مرحلة حكم الإنقاذ بقيادة الرئيس البشير حيث تم تجييش المسيرية تحت مسمى كتائب الدفاع الشعبي التي يقول خميس إنها أحرقت منطقة 'أبيي' بكاملها. ويتابع خميس التاريخ السياسي لمنطقة أبيي فيقول إنها ضمت إداريا خلال مرحلة الحكم الثنائي المصري البريطاني في عام 1905 إلى إقليم كردفان، وكانت الحجة في ذلك الوقت سهولة إدارتها من كردفان، ولم تكن السلطات المصرية البريطانية قد استشارت سكان أبيي حول هذا الضم، كما ضمت الحكومتان منطقتي قوقريال وبيمنم إلى كردفان ولكن تم إرجاعهما في عام 1938 ولم يحدث الشيء نفسه مع منطقة 'أبيي'. ويقول خميس إن قضية 'أبيي' حظيت باهتمام في اتفاقية أديس أبابا في عام 1972، وتم الاتفاق في هذه الاتفاقية على إجراء الاستفتاء لتحديد مستقبل هذه المنطقة، ولكن الاستفتاء لم يتم، وكان يزج في السجن بكل من يطالب بذلك وقد تعرض البعض للتصفيات الجسدية بحسب زعمه. وقد حظيت قضية 'أبيي' باهتمام خاص من التجمع الوطني لدى اجتماعه في أسمرا عام 1995حيث ركز التجمع على ضرورة إجراء الاستفتاء وقد نص على ذلك في بروتوكول خاص في كينيا عام 2004. وكان هذا البروتوكول مقترحا أمريكيا من المبعوث الأمريكي إلى السودان جون دانفورث الذي أرسله الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش. وقد نص البروتوكول على ما يلي: أولا: تعتبر منطقة أبيي منطقة لعشائر الدينكا نقوك التسع والقبائل الأخرى التي تساكنها في المنطقة. ثانيا : يتم استفتاء في المنطقة بالتزامن مع استفتاء جنوب السودان لتحديد المستقبل الإداري للمنطقة. ثالثا: يتم تكوين مفوضية لترسيم حدود المنطقة ويكون قرارها ملزما وقد شكلت المفوضية بالفعل برئاسة الأمريكي دونالد بيترسون ولكن الحكومة السودانية رفضت قرارها بترسيم الحدود، وقد أدى هذا الرفض إلى نزاعات مسلحة ما جعل الأطراف تحيل الأمر إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي التي أصدرت قرارها في الثاني والعشرين من تموز/يوليو عام ألفين وتسعة، وهو القرار الذي رحبت به سائر الأطراف بما فيها حزب المؤتمر الوطني الحاكم . وقد تعهدت وزارة الخارجية السودانية بأنها ستحترم قرار محكمة العدل الدولية، وذلك كان أيضا موقف 'دينق ألور كول' المسؤول في الحركة الشعبية ومالك عقار والي النيل الأزرق، ولكن المشكلة تفاقمت من جديد إثر تصريحات مستشار الرئيس السوداني في ذلك الوقت صلاح قوش الذي قلل من أهمية قرار محكمة العدل الدولية بترسيم الحدود وطالب بإيجاد صيغة جديدة لحل المشكلة، كما رفض حزب المؤتمر الوطني تكوين مفوضية استفتاء منطقة 'أبيي' على الرغم من أن الرئيس 'سلفا كير' قال إن الجنوبيين قدموا مرشحين من كل القبائل. ويقول الجنوبيون إن المؤتمر الوطني الحاكم في الشمال يريد لمنطقة 'أبيي' أن تكون منطقة تكامل بين الإقليمين بحيث لا تتبع لأي منهما. ويبدو في ضوء ما ذكر أن منطقة 'أبيي' ستظل منطقة صراع بين الشمال والجنوب بسبب تداخل سكانها العرقي وخاصة بين المسيرية والدينكا نقوك، وأيضا بسبب موقعها الجغرافي وثرواتها الطبيعية وأهمها النفط في هذه المرحلة. وبصفة عامة نرى أن المشكلة القائمة في الوقت الحاضر لا تقتصر على أبيي وحدها، وإنما هي مشكلة الخلافات حول صيغة الحكم ذاتها، وقد حذر تحالف المعارضة الحكومة المصرية من عقد اتفاقات مع حكومة الإنقاذ، وهناك دلائل على أن بعض متمردي دارفور توجهوا إلى جنوب السودان لممارسة بعض نشاطهم من هناك، كما ترفض المعارضة السودانية المشاركة في حكومة مع نظام الحكم القائم، ما يؤكد أن المشكلة التي يواجهها السودان في مرحلته الراهنة هي مشكلة إيجاد صيغة للتوافق في أسلوب الحكم في البلاد، ذلك أن الشروخ التي بدأت تظهر وتهدد وحدة السودان تؤكد أن الأمور في هذه المرحلة لا تسير في طريقها الصحيح. ' كاتب من السودان المصدر: القدس العربي 12/5/2011