ان يوقع الشمال والجنوب على اتفاق يقضي بانشاء منطقة منزوعة السلاح في أبيي ويوافقان على انتشار القوات الاثيوبية في المنطقة امر ليس مستغرباً ولم يدهش المراقبين، على الاقل لان هذا الخبر اعلن عنه الاسبوع الماضي وتحفظت عليه الحكومة الى حين موافقة الحركة الشعبية على شروط ظلت تشغل الحكومة وبالتالي فإن الكل كان مهيأ لمثل هذه الخطوة . لكن المثير للاندهاش ان تدعو سفيرة الولاياتالمتحدة في الاممالمتحدة سوزان رايس بعد اقل من ساعتين في خطاب لمجلس الامن الى نشر القوات الاثيوبية (فورا) في منطقة أبيي بل وأكدت أن الولاياتالمتحدة ستبدأ كذلك (فورا) في صياغة قرار لمجلس الامن يسمح بنشر القوات الاثيوبية. فرايس التي لم تدع قرار الاتفاق يبرد عبرت عن فرحتها دون ان تبتسم بأن امريكا تريد ان تبعث (ظاهريا) رسالة الى العالم عبر مجلس الامن حول مدى حنيتها على اوضاع المدنيين وبمدى اهتمامها باستقرار المنطقة ، لكن الولاياتالمتحدة التي اربكتها جرأة القوات المسلحة باجتياحها لابيي خلال ساعات قليلة وفرضها لواقع كان خارج حساباتها رأت في الاتفاق فرصة مقدمة على طبق من ذهب تتيح لها على اقل تقدير ترتيب استراتيجيتها تجاه المنطقة واعتماد اسلوب جديد في قلقلة المنطقة واطالة امد التوتر بالطريقة التي تريدها، خاصة بعد ان تأكدت من الفارق الكبير في الامكانات العسكرية والمقدرات القتالية بين القوات المسلحة والجيش الشعبي ، والتي وضحت تماماً بعد فشل المحاولة الاخيرة للجيش الشعبي لاقتحام المنطقة من عدة محاور بمعاونة بعض المرتزقة . وحتى تعيد الولاياتالمتحدةالامريكية الوضع الى ما كان عليه قبل دخول جيش الشمال ابيي فإن ذلك سيكلفها مجهوداً مضنياً وتكتيكاً مختلفاً ووقتاً من غير المعلوم مداه بعد ان فشلت سياسة الترغيب والترهيب بوقف التطبيع والعزلة الدولية تجاه الحكومة السودانية . اذن رايس تدرك تماماً اهمية هذا الاتفاق وهي تلقي خطابها امام مجلس الامن بضرورة الاسراع في تنفيذه وعينها على بند واحد هو انسحاب القوات المسلحة من ابيي ، بينما تضع كل بنود الاتفاق الاخرى وآليات تنفيذه في كفة اخرى . يبدو جلياً ان المعركة المقبلة بين الحكومة والحركة ستكون حول آليات وتنفيذ الاتفاق على ارض الواقع خاصة وان الشروط الخمسة التي وافقت عليها الحركة الشعبية في الاتفاق بعضها يوحي بأن موافقة الحركة جاءت تكتيكية ، فمثلا الحركة وافقت على العودة الى ما اتفق عليه سابقا وهو ان منطقة ابيي تقع شمال خط 1/1/1956 مما يجعل البعض يعتقد ان الحركة وافقت على ان ابيي شمالية ، وهو عكس الموقف الرسمي المعلن من قبل الحركة من هذه المسألة ، الامر الذي يثير كثيراً من الاستفهامات حول انقلاب وجهة نظر الحركة والجواب ليس صعباً (ضمان انسحاب القوات المسلحة من ابيي). كذلك من الاشياء التي يجب الوقوف عندها موافقة الحركة على تشكيل ادارية متوازنة في ابيي بعد ان ظلت تعزف على وتر حل الحكومة للادارية السابقة في كل المحافل ، وإن وافقت الحركة على تشكيل ادارية متوازنة الا ان ذلك يفتح الباب من جديد امام التراشقات وفي الاذهان ما حدث في وقت سابق عندما كانت رئاسة الادارية بالتناوب بين الشمال والجنوب ، ومع الوضع في الاعتبار الاتهامات التي وجهتها الحكومة لرئيس الادارية السابقة في التسبب في ازمة ابيي الاخيرة ، الامر الذي يتطلب رؤى وآليات جديدة حول هذه الإدارية الجديدة المتوازنة لعدم تكرار هذه التجربة. على اي حال فإن فرحة رايس بانسحاب القوات المسلحة من ابيي قد لا تكتمل ومرشحة بان تعترضها مفاجآت كحال تلك المفاجآت التي يفجرها الشريكان من حين لآخر في خضم اقصى درجات النزاع والخصومة وذلك باحداث اختراق نوعي في اعقد المشكلات ، ذلك لان العوامل الاستراتيجية التي تجبر الشريكين على ضرورة التوافق اقوى من اي عوامل او وعود ربما تدفع بها الادارة الامريكية مثل البترول والحدود والتجارة والقبائل واهم عامل هو الدور الامني الكبير الذي يمكن ان يقوم به الشمال لدعم استقرار دولة الجنوب الوليدة ، ولعل اللهجة التي تحدث بها وزير الخارجية علي كرتي في بيانه امام البرلمان يوم الاثنين عن مستقبل العلاقة مع الجنوب أكبر دليل على ذلك حيث اكد ان الحكومة ستواصل سعيها لاقامة علاقات ايجابية مع دولة الجنوب وتعظيم المصالح المشتركة ورعاية الحدود بصورة مرنة ومشتركة لتحقيق تطلعات الشعبين وحل القضايا العالقة بالوسائل السلمية والتعاون والعيش المشترك وأنهم في الخارجية شرعوا في وضع الاسس الادارية والدبلوماسية لتوسيع مكتب الاتصال بجوبا ليكون نواة لسفارة عقب الانفصال ، بما لا يدع مجالاً للشك، هذه اشارات مهمة مع اقتراب اعلان دولة الجنوب ورسالة ستقف عندها حكومة الجنوب في هذا الوقت الحساس ، على الاقل من اجل تهيئة مناخ جيد في الشهور الاولى من احتفالاتها بميلاد الدولة الجديدة. اما فيما يخص القوات الاثيوبية والتي ستكون المادة الدسمة التي ستتصدر اخبارها صفحات الصحف ووسائل الاعلام خلال الفترة القادمة ، فإن التنبؤ بوضعها في ابيي فهو بطيخة مقفولة ، يتوقف على عوامل كثيرة داخلية وخارجية ، تستطيع هذه القوات تداركها بجديتها وصدق نواياها في انجاز المهمة بحيادية كاملة، وعلى كل فإن هذه القوات قد لا تسلم من غبار الصراع على المنطقة طالما كل طرف متمسك بأحقيته فيها، والمحك الحقيقي لهذه القوات سيكون في مواجهتها محاولات عودة الجيش الشعبي والتسلل للمنطقة بطريقة او بأخرى.. وفي الجانب الآخر فان القوات المسلحة بالتأكيد لن تقف مكتوفة الايدي ازاء اية محاولة للشعبي لدخول المنطقة ، اما اذا حاولت القوات الاثيوبية ان تنهل من تجربة القوات الاممية ، او تأثرت باي ضغوط خارجية غيرت عملياً في التفويض الممنوح لها ، فعليها ان تحزم حقائبها من الآن لأن رحيلها سيكون قبل ميعاده . نقلا عن صحيفة الراي العام السودانية 23/6/2011م