شمالياً تراوح النظر لزيارة رئيس دولة الجنوب سيلفاكير ميارديت للخرطوم يوم السبت الماضي بين من وقف عند حرارة الاستقبال وسجلها فتحاً جديداً في علاقات الدولتين المنفصلتين وقال إنها تؤسس لعلاقات مستقبلية إيجابية، ومن حاول أن يقيِّمها بموضوعية أكثر ويُفسِّر تفاصيل أحداث الرحلة وفق ما جاء فيها. الوفود التي شاركت في رحلة الرئيس سيلفاكير، وبالتالي قابلتها في الشمال وفود من نفس الشاكلة، هي وفود تجارية مالية عسكرية أمنية. ولذلك قسمت اللجان الخمسة التي ستُعالج مسائل الخلاف على هذا المنوال، فاجتمعت، وناقشت، وقدمت حلولاً مؤقتة أشبه ما تكون بالإطار النظري على أن يكون حسمها العملي في نهاية شهر أكتوبر الحالي، وبالتالي يبدأ تنفيذها العملي وتفتح الحدود تجارياً.. الذي يبدو الجنوب في لهفة لتنفيذ جانب التبادل التجاري منها. كان الجنوب مستعجلاً على سريان نصوص الاتفاقات التجارية ويعمل جاهداً على تحديد بداية هذا السريان، بينما ربط الشمال بداية سريان الاتفاقات بتطوُّر الوضع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. في المقابل قال الجنوب إن موضوع الولايتين شأن داخلي شمالي ولا يفترض أن له علاقة بما يخص علاقات الدولتين. لم نسمع شيئاً عن رد الشمال على هذه الملاحظة، ولكن اتهامات الشمال قائمة بأن الجيش الشعبي تحت قيادة سلفاكير ميارديت القائد الأعلى لذلك الجيش هو الذي نفَّذ ما حدث في الولايتين بالإضافة إلى أن لدى الشمال إثباتات بأن الجنوب هو الذي موَّل العمليتين. إذن.. الجنوب على حق بالزعم بأن أحداث الولايتين شأن داخلي شمالي، والشمال على حق بأن الجنوب ضالع في العمليتين .. وهذا هو لُب المشكلة. البعض فسَّر (العصلجة) التي عقّدت سير المفاوضات بتشاؤم رجَّح ألا تنطلق بسببه علاقة الدولتين للسلام المنشود. لكن البعض الآخر اعتبرها شيئاً طبيعياً بالنسبة لعلاقة ظل يشوبها الشك وعدم الاستقرار ليس بعد ظهورها للعلن عقب اتفاق السلام الشامل في نيفاشا عام 2005، وإنما منذ تمرد أغسطس عام 1955. لذلك تبدو أهم ملاحظة يمكن أن تُسجَّل هنا هي أن الخلاف وبذور الشك التي شابت العلاقات الجنوبية الشمالية قديمة ومتجذّرة، وليس من المنطق أن نظن أن حلها أو علاجها يمكن أن يتم في زيارة تستغرق يوماً واحداً. هذه واحدة. والثانية أن الزيارة ليست زيارة طبيعية وإنما كان لها هدف واحد فهو فك الضائقة المعيشية في الجنوب. ولذلك لا يبدو منطقياً أن نتصوَّر أن حل مشاكل الشمال مع الجنوب تحت طائلة هذا الضغط. صحيح الضغط ليس من الشمال، وإنما هو ضغط الأوضاع في الجنوب. لكن لو قدم الجنوب بعض التنازلات (قُصاد) تنازلات من الشمال لبقيَ يفكر بأنه قدم تنازلاته مُكرها بسبب الضغط الذي يتعرَّض له. وبعد .. برغم أن الرأي العام الشمالي واقع تحت (عُقدة) أن الشمال أدمن تقديم التنازلات للجنوب وبالذات ابتداءً من اتفاقية نيفاشا، لكن يبدو أن المطلوب الآن تقديم تنازلاً آخر، أو الأفضل أن نسميه (تفهُّماً) لمشكلة الجنوب الآنية. ففتح الحدود أمام تدفق السلع الشمالية للجنوب وخاصة تلك التي تتعلق بإطعام الجنوبيين، أهم في هذه المرحلة من فتح ميناء بورتسودان لعبور السلع التجارية للجنوب، واعتبار هذه الميناء كما كانت عبر التاريخ ميناء للسودان كله، جنوبه وشماله. الفَرْق بين الحاجة الآنية والحاجة المستقبلية هو ما ينبغي أن ننظر من خلاله الآن. نقلا عن صحيفة الرائد بتاريخ :12/10/2011