في قلب غابة، على بعد 20 كم من العاصمة الليتوانية فيلنوس تمركزت مدرسة للتدريب على ركوب الخيل. لم يكن أحد يدري أن هذا المكان، الذي اشترته وكالة الاستخبارات الأميركية قبل 7 سنوات عبر شركة ليتوانية وسيطة تحول إلى سجن ل «ترويض» أشخاص اتهمتهم الإدارة الأميركية السابقة بالانتماء إلى صفوف «القاعدة». قيل، بعد أن افتضح الصحفيون أمر هذا السجن الأميركي السري أن فيلنوس منحت واشنطن الموافقة على افتتاحه مقابل دعم أميركي للانضمام إلى حلف «ناتو»، وهو ما حدث لاحقاً. شكوك الصحفيين الليتوانيين أكدتها نتائج التحقيق الذي أجرته لجنة برلمانية خلصت إلى تحديد موقعين على الأراضي الليتوانية، الأول بدأ تطويره عام 2002 وكان معداً، حسب رئيس اللجنة ارفيداس انوسوسكاس، لاستقبال شخص واحد فقط، أما الموقع الثاني فقد أنشئ سنة 2004، إلا أن اللجنة لم تؤكد مزاعم الصحفيين الليتوانيين بأن رئيسي البلدين كانا على علم بهذين الموقعين، وقالت إنهما تبلغا النبأ على نحو سطحي جدا. بهذا الخبر الفضيحة طوى العام 2009 في شهره الأخير ملف السجون السرية الأميركية إلى حين، وسلمها إلى خليفته، فمن يدري ربما تنهار في العام 2010 دول جديدة تحت ضغط الصحافة ومنظمات حقوق الإنسان لتقر بذنبها في افتتاح سجون سرية أميركية على أراضيها، أو ربما تستعر حدة المنافسة السياسية بين فرقاء السلطة في الدول المعنية فتتعرى معها الحقائق مسقطة ورقة التوت الأخيرة.. فالواقع يشهد، والتقارير الصحفية وأدلة المنظمات الإنسانية والحقوقية وتحقيقات النائب في البرلمان الأوروبي كلاوديو فافا تشير إلى أن 14 دولة أوروبية ساهمت في إنشاء السجون السرية الأميركية في القارة العجوز، فيما أثبت مقرر البرلمان الأوروبي السويسري ديك مارتي تورط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في إدارة سجون سرية في كل من رومانيا وبولندا بتواطؤ من سلطات الدولتين. لكن ما العمل عندما تفتقر الدولة المستضيفة للسجون السرية الأميركية لأبسط الحريات الصحفية، وينتفي فيها دور المنظمات الأهلية والحقوقية، كما هو الحال في العديد من الدول الإفريقية، المستعدة عملياً، مقابل «السخاء» الأميركي، لتبتلع في صحاريها آلاف السجون السرية بعيداً عن كل عين. إذا كان أمر السجون الأميركية قد فضح في أوروبا، وندّد به، شعبياً ورسمياً، بفضل نشاط الجهات المذكورة آنفا، فإن ظلام هذه السجون تماهى مع سواد أفريقيا لانتفاء مثل هذا النشاط في القارة السمراء، والدليل أنه تم فعلا اكتشاف سجون أميركية سرية في كينيا، بل وفي بعض الدول العربية الإفريقية، إلا أن التصريح بوجودها لم يتعد حدود أخبار صحفية جافة سربتها وسائل إعلام أميركية، ومرت من دون أن تندّد به شعوب إفريقيا الجائعة. لذا، فإن هذه القارة مازالت لأسباب سياسية واقتصادية وأمنية مرشحة اليوم ومستقبلا لتكون سجنا للذين يقعون، ولا يزالون واقعين تحت رحمة (سي أي أيه) الأميركية، يحلقون بطائراتها عبر فضاءات العالم بحثاً عن مستضيف، ولاسيما أن نظام الاحتجاز السري أسلوب معتاد لدى وكالة الاستخبارات الأميركية منذ مدة، لكنه ظل طي الكتمان إلى أن كشفت صحيفة «واشنطن بوست» النقاب عنه. الإدارة الأميركية الحالية بقيادة باراك أوباما تحاول عبثا، منذ تسلمها قيادة أميركا، التخلص من تركة بوش السوداء، ويواجه أوباما العديد من التعقيدات أثناء محاولته إغلاق معتقل غوانتانامو، ما اضطره مؤخراً للإقرار بأنه لن يستطيع الوفاء بمهلة السنة، التي حددها موعداً نهائياً لإغلاقه عندما تولى منصب الرئيس في كانون الثاني الماضي. ومن ضمن محاولاته لتطبيق وعوده تسعى الحكومة الأميركية اليوم لشراء سجن في إيلينوي من أجل نقل عدد «محدود» من سجناء غوانتانامو إليه، لكن مساعي الحكومة الأميركية تصطدم بعراقيل التمويل اللازم من الكونغرس، كما تزعم تقارير لوزارة الدفاع الأميركية بأن أعداداً متزايدة من المسجونين، المفرج عنهم من معتقل غوانتانامو يعاودون الانضمام إلى الجماعات، وأن واحداً من كل خمسة منهم يعود إلى «قواعده»، وهي تقارير يعدّها البعض ذريعةً للاحتفاظ بالمعتقلين وتسويغ سياسة الخطف والاعتقالات، التي تنتهجها (سي أي إيه)، كما أن الأمن الداخلي الذي أعلنت أميركا بوش حربها على «الإرهاب» باسمه يتحكم اليوم بقائمة السجناء المؤهلين لمغادرة غوانتانامو، حيث أوقفت إدارة أوباما مؤخراً تسليم سجناء يمنيين إلى بلادهم بعد محاولة تفجير طائرة أثناء رحلة إلى مدينة ديترويت الامريكية في 25 كانون الأول. لو افترضنا أن الحكومة الأميركية الحالية ستحصل على التمويل اللازم لنقل «عدد محدود» من سجناء غوانتانامو إلى سجن إيلينوي، فإلى أين ستقذف السجناء الآخرين ؟ هل ستطلق سراحهم وتتخلص من عبئهم؟ أم تحملهم على متن طائرات استخباراتها إلى سجون سرية جديدة؟ هنا نود أن نشير إلى أن دولة سوفييتية سابقة، وهي جورجيا، أعلنت استعدادها لاستقبال معتقلين من سجن غوانتانامو على أراضيها، وهو ما ربطه البعض برغبتها في الاستفادة من «خبرتهم» واستخدامهم أوراق ضغط على جيرانها. ثم ما الذي يضمن ألا يتحول سجن إيلينوي إلى غوانتانامو أو «أبو غريب» جديدين أو إلى أي سجن من شاكلة السجون السرية، لكن داخل الأراضي الأميركية هذه المرة، يمارس فيه «خبراء الاستجواب» طقوسهم المعتادة بحق المعتقلين بدءاً من التعرية، مروراً بتغطية الرأس والضرب والإهانة الجنسية والتهديد بالكلاب والحرمان من الطعام والماء والإعدامات الوهمية والصعق الكهربائي والحرق والإيهام بالغرق..؟ الجواب رهن العام 2010. المصدر: تشرين السورية 12/1/2010