شهد احتلال أفغانستان قيام "سلسلة" من السجون في بلدان كرومانيا وبولندا، وتعاوناً مع المخابرات الأمريكية تمثل في التحقيق تحت التعذيب في بلدان كثيرة من بينها بلدان عربية ! وهنا يتناول آدم غولدمان ومات أبيوزو سجناً رومانياً سرياً : في شمال بوخارست، وفي حي سكني يضج بالزحام ، وعلى بعد دقائق من قلب العاصمة ، يقبع سر حاولت الحكومة الرومانية طويلاً أن تبقيه بعيداً عن العيون . فلسنوات استخدمت وكالة المخابرات الأمريكية C.I.A مبنى حكومياً أطلقت عليه اسماً رمزياً هو "الضوء الساطع"، وجعلته مثابة مؤقتة لاحتجاز سجنائها الأكثر أهمية وقيمة. فهنا سجنت ناشطي القاعدة، وفي طليعتهم خالد شيخ محمد، العقل المدبر لتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، تحت الأرض قبل ترحيلهم في خاتمة المطاف إلى خليج غوانتنامو عام 2006 ، تبعاً لما رواه عاملون في المخابرات الأمريكية على اطلاع بالموقع وأساليب العمل فيه . وكان الحديث يدور على نطاق واسع عن سجن للمخابرات الأمريكية في رومانيا ، إلا أن موقعه بقي طي الكتمان ولم يكشف حتى استطاعت الاسيوشيتدبرس والتلفزيون الألماني ARD أن يميطا عنه النقاب وعن ما كان يجري فيه من تحقيقات بأساليب وحشية. والسجن الروماني كان واحداً من بين العديد من مثيلاته في شبكة أطلق عليها "المواقع السوداء"، تهيمن عليها وتديرها المخابرات الأمريكية وراء البحار في تايلاند وليتوانيا وبولندا ، وبقيت فاعلة حتى أغلقت عام 2006، فيما أنهى برنامج الاحتجاز والاستجواب عام 2009 . ولم يكن هذا السجن شبيهاً في موقعه بسجن ليتوانيا الذي أقيم في الريف، ولا بالآخر في بولندا الذي دس في منشأة عسكرية ، إذ أخفي في ثنايا مظهر بسيط قريباً من شارع رئيس، مطلاً على جادة تصطف على جانبيها الأشجار والمنازل وخطوط مزدحمة للسكك الحديدية . وكان المبنى يستخدم مكتباً للسجل الوطني للمعلومات السرية ، ويعرف أيضاً "بأورنس" ORNISS ، حيث تحفظ المعلومات السرية المتعلقة بحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي هناك. وكان عاملون سابقون بالمخابرات قد وصفوا المبنى وتعرفوا على الصور التي التقطت له. وفي مقابلة أجريت في نوفمبر بالمبنى مع أحد كبار موظفي "أورنس" ، أدريان كامراسان، جاء أن الطابق السفلي من المبنى يعد أكثر الأماكن أمناً في رومانيا ، ولكن نفى أن يكون رجال المخابرات الأمريكية قد أداروا سجناً فيه. "لا ، لا . مستحيل ، مستحيل" هكذا رد أدريان على قناة التلفزيون الألماني في برنامجها الإخباري "بانوراما" في مقابلة شهدها أحد مسئولي المخابرات. وكان سجن المخابرات المركزية الأمريكية في بوخارست قد أفتتح عام 2003 ، بعد أن قررت السي أي اى إخلاء موقعها الأسود في بولندا ، كما جاء في مقابلة مع أحد مسئوليها اشترط عدم إيراد اسمه لأنهم غير مخولين بالحديث إلى الصحفيين عن برنامج الاحتجاز. واتسمت العمليات المكوكية لجلب السجناء بسهولة نسبية، فبعد رحلة بالطائرة إلى بوخارست كان السجناء ينقلون في شاحنات صغيرة يقودها رجال المخابرات المركزية في طريق جانبي ثم يدخلون إلى المبنى من بوابة خلفية تفضي إلى السجن ، حيث ينزل السجناء ويقتادون إلى الطابق السفلي. ويحوي الطابق السفلي ست زنازين بكل واحدة منها ساعة وسهم يشير إلى مكة. وأقيمت الزنازين السابقة التجهيز هذه على نوابض - يايات - تجعلها مختلة التوازن قليلاً مما يقود إلى شيء من الارتباك لبعض السجناء. وفي الشهر الأول من الاحتجاز يقاسي السجناء الحرمان من النوم ، ويغمرون بالمياه، ويصفعون ، أو يجبرون على الوقوف في أوضاع صعبة. ولكن مصادر المخابرات تنكر أن يكون أسلوب التحقيق الشهير والمعروف بمحاكاة الغرق ، قد مورس على السجناء في رومانيا. وفي أعقاب التحقيقات الأولية يعامل السجناء بشيء من العناية حيث تفحص أسنانهم ويتلقون كشفاً طبياً دورياً، وكانت وكالة المخابرات المركزية تشحن للنزلاء أغذية حلالاً من مركز عملياتها الأوربي في فرنكفورت . ويعد اللحم الحلال وفقاً للقواعد الدينية المماثلة لتلك التي يحضر بها الكوشير (اليهودي) . ويزعم مسئولو السي أي اى السابقون أن طبيعة المبنى الحكومية وفرت غطاء ممتازاً، فلم يكن السجن بحاجة إلى حراسة أمنية مشددة لأن القانطين بالمنطقة يعلمون أنه مملوك للحكومة ولن يخطر ببالهم التحري بشأنه في بلد كرومانيا خارج لتوه من الحقبة الشيوعية بجهاز أمني ضخم معروف عنه التجسس على مواطنيه. ودعا الناشطون في منظمات حقوق الإنسان بلدان شرق أوروبا للتحقيق في الأدوار التي لعبتها حكوماتها في استضافة هذه السجون التي جرت بها أساليب استنطاق وحشية كمحاكاة الغرق، ولكن مسئولي هذه البلدان يمضون في إنكار أن تكون هذه السجون قد وجدت هناك في يوم من الأيام. وكان الرئيس الروماني ، ترايان باسيسكو ، قد قال في مقابلة مع "الاسيوشيتدبرس" جرت في سبتمبر: " لقد سمعنا بهذا النقد، ولكن ليس لدينا أي علم بهذا الأمر ". وسعت وكالة المخابرات المركزية لإغلاق ملف برنامج الاحتجاز، ووضع أوباما نهاية له بعيد دخوله إلى البيت الأبيض بوقت قصير. وذهب كبير محامي الوكالة ، استيفن برنستون، في مؤتمر عقد هذا الشهر إلى القول بأن " الجدل حول الأمر قد خفت إلى حد كبير". ولكن التفاصيل حول شبكة السجون أخذة في التسرب من خلال التحقيقات التي تجريها الهيئات الدولية، والصحفيون ، وجماعات حقوق الإنسان . وعلق ديك مارتي، النائب بالبرلمان السويسري الذي قاد تحقيقاً حول سجون السي أي اى السرية للمجلس الأوروبي ، بالقول: "لقد مضت سنون في الإنكار الرسمي ، وبدأنا أخيراً ندرك ما حدث فعلاً في بوخارست ". وخلال التحقيق الذي أجراه المجلس الأوروبي ، أكد وزير خارجية رومانيا في تقرير مكتوب أنه "لم يتورط أي مسئول حكومي، أو أي شخص آخر بصفته الرسمية، في الحرمان المنكر لأي فرد من حريته ، أو ترحيل أي شخص وهو رهين قيد هذا التجريد من حريته ". ومضى التقرير ليصف عدة تحقيقات أجرتها الحكومة بشأن ما ورد عن سجون الوكالة السرية في رومانيا ، ليخلص إلى أن " مثل هذه الأنشطة لم تجر على الأراضي الرومانية قط " . وكان الصحفيون ومحققو حقوق الإنسان قد استخدموا سجلات الرحلات الجوية للربط بين رومانيا وبرنامج السجن السري. ووفقاً لهذا السجلات كانت هناك رحلة للطائرة البوينج 737، والمعروفة بأنها في خدمة السي أي اى، من بولندا إلى بوخارست عام 2003 ، وكان من بين السجناء على متنها محمد ووليد بن عطاش المتورطين في مهاجمة المدمرة الأمريكية كول (USS COLE). وفي وقت لاحق نقل آخرون إلى رومانيا كان من بينهم رمزي بن الشيبة ، وعبد الرحيم الناشري ، وأبو فراج الليبي . وكان الليبي المراوغ ، والذي اقتيد إلى السجن في يونيو 2005، قد قدم معلومات ستعين الوكالة لاحقاً في التعرف على رسول "ابن لادن الموثوق به" الذي قادهم دون قصد منه ، إلى ابن لادن نفسه . وتضيف وثائق محكمة ، كشفت مؤخراً في دعوى قضائية، إلى مجموعة الأدلة عن سجن المخابرات الأمريكية في رومانيا، إذ تشير إلى أن شركة ريتشمور للطيران المحدودة ، وهي شركة شحن تتخذ من نيويورك مقراً لها ومتعاقدة مع الوكالة ، قد سيرت رحلات إلى رومانيا ومنها ، إلى جانب أماكن أخرى شملت المغرب ، والسجن العسكري الأمريكي في خليج غوانتنامو. وجاء تكليف ضباط الوكالة بالعمل في السجن السري مثيراً لهم ، وكان العمل يتم في دورات تمتد الواحدة منها إلى تسعين يوماً، حيث يقيمون بالمجمع ويتناولون طعامهم به أيضاً . وحظر على الضباط مغادرة المبنى بعد أن أثار وجودهم في الحي الريب. وشكا ضابط سابق في الوكالة من أنها ( أي الوكالة ) تضيع معظم وقتها في مجالسة المحتجزين أمثال ابن الشيبة ومحمد اللذين تضاءلت أهميتهما بالنسبة لها بفعل كبر السنين. وفي النهاية أغلقت المواقع الرومانية واللتوانية في النصف الأول من عام 2006 ، وقبل أن يغادر مدير الوكالة ، بورتر جوص مقعده بها . ونقل بعض المعتقلين إلى كابول ، حيث يمكن للوكالة احتجازهم على نحو قانوني قبل أن تبعث بهم إلى غوانتنامو، فيما حمل آخرون إلى بلادهم. نقلا عن صحيفة الرائد بتاريخ :13/12/2011