تحليل سياسي لا تبدو العروض المليارية التى مافتئت حكومة جنوب السودان تعرضها على لسان أمين عام الحركة الشعبية الحاكمة هناك باقان أموم، ثمناً لحلحلة قضايا دولة الجنوب لدي السودان بغير دلالات ومؤشرات خفية على درجة بالغة من الخطورة، إذ ليس سراً ان جمهورية جنوب السودان دولة وليدة ولم تؤسس بعد بنيتها التحتية والخدمات الأساسية، بل ولم تمنح مواطنيها بعد الشعور بأنها تعتزم خدمتهم، ولا يوجد فى طول وعرض جمهورية جنوب السودان سوي أقل من 100 كلم من الطرق الأسفلتيه الممهدة، وليس للدولة الوليدة منافذ بحرية، بحيث يمكن القول ان نقل اى احتياج من احتياجاتها عبر تلك الدول المجاورة لها يضاعف عشرات المرات كلفة النقل عن طريق السودان. السؤال هو، من أين إذن لجمهورية جنوب السودان وهى بهذا القدر السيئ من الحال هذه المليارات التى تود عبرها مقايضة قضايا أقصي ما هو مطلوب لحلحلتها هو توفر حسن النية والإرادة السياسية المتجردة لدي قادة دولة الجنوب. إن مما يثير الارتياب حقاً فى هذا الصدد هو ان تكون دولة جنوب السودان قد باعت بالفعل جزءً مقدراً من الدولة، خاصة وان الكل يعلم ان بيعاً فعلياً قد تم مسبقاً من جانب حكومة الجنوب لحوالي 9% من أرض الجنوب لشركات أمريكية بأثمان زهيدة ومضحكة . الامر الثاني ان قادة الحركة الشعبية – فى سعيهم لإحكام سيطرتهم علي دولة الجنوب – يريدون ربطها ربطاً محكماً بعقود وارتباطات اقتصادية دولية لا فكاك منها لا فى المستقل القريب ولا حتى فى البعيد، وهو أمر شائع الحدوث لدي عدد من دول القارة الإفريقية حين يتحكم همّ الإمساك بالسلطة على أى وازع وطني، وحين يجد قادة السلطة أنفسهم بين خيار العمل المضني لتنمية وتطوير بلادهم ورفاهية شعبهم، وبين راحة بالهم وترك الأمور كما هي طالما أن هنالك مال يتدفق بين أيديهم وحسابات خارجية سرية. ولعل مما يدعم هذه الفرضية ان دولة جنوب السودان لم تجد حتى الآن ولا يعتقد العديد من خبراء الاقتصاد أنها سوف تجد مانحين او مقرضين يمنحونها ويقرضونها المال لسفلتة طرق وإنشاء كباري او مصانع او مدارس فى ظل إدراك المجتمع الدولي بأسره ان الأفواه النهمة المتعطشة للمال لدي قادة الحركة مفتوحة على الدوام، ففي ظل انعدام خيار القروض والمنح فلا خيار سوي اللجوء للبيع الخفي. من جانب ثالث فان حكومة جنوب السودان -خاصة فيما يتعلق بأبيي- تبدو مهمومة بهذا الملف خوفاً من انقلاب أبناء أبيي – من بين قادة الحركة عليها، إذا شعروا ان حكومة الجنوب ستخسر القضية أو ان أبواب الحلول المناسبة قد انسدت، هذا بالضبط هو الذى يسيطر على ذهنية القادة الجنوبيين فى الوقت الحاضر، بعدما كان هذا الملف فى السابق بارداً بعض الشيء ولم يكن قادة الحركة فى عجلة من أمرهم بشأنه. ايضاً هناك مخاوف جدية يبديها قادة جنوبيين بعضهم كان ينتمي للأنانيا 2 التى كان يقودها الفريق جوزيف لاقو فى ستينات القرن المنصرم من أن يكون التعاون الذى حصلت عليه الأنانيا وحصلت عليه لاحقاً الحركة الشعبية من اسرائيل ثمنه وجوداً إسرائيلياً كاملاً فى الجنوب تستمتع فيه الدولة العبرية بما لذَّ وطاب لها من مياه النيل الصالح مستقبلها والنفط والأراضي الزراعية الخصبة الكفيلة بتأمين غذائها توطئة لتوسيع نطاق سيطرتها فى المنطقة بأقل كلفة . من جانب آخر ايضاً فان كل من لديه علم ولو يسير بذهنية الجار الحليف للحركة الشعبية الرئيس اليوغندي يوري موسفيني والدور المشبوه الذى ظل - ولسنوات - يلعبه هذا الرجل وكان أبرزه مأساة رحيل صديقه قرنق، يستطيع ان يدرك ان للرجل (صلة ما) بهذه العروض المليارية لصالح جهات معروفة. وهكذا، فان الامر لا يبدو مجرد عروض او تلويح سياسي فارغ المحتوي، من المؤكد ان وراء هذه العروض المثير الخطر؛ ومن الخير ان يعكف المحللون – منذ الآن – على التمعن فى هذا الامر قبل فوات الأوان !