فيما تقترب ولاية مدعي عام محكمة الجنايات الدولية من الانتهاء، منتصف العام المقبل (يونيو 2012) تتصاعد بشدة، وفيما يشبه السيل الجارف مواقف دول القارة الأفريقية الرافضة للتعاون مع المحكمة. ولعل آخر الرافضين للمحكمة الرئيس اليوغندي (يوري موسفيني)، السبت الماضي فى أعقاب اختتام قمة دولة البحيرات الثالثة عشرة، فقد قال موسفيني فى ردِّه على سؤال فى مؤتمر صحفي انعقد فى خواتيم القمة بالعاصمة اليوغندية كمبالا بشأن موقف دول البحيرات من الجنايات الدولية: (ليس فقط الافارقة هم الذين يرتكبون الجرائم)، وندَّد موسفيني على نحو حاد بالمحكمة واصفاً تحركاتها بغير العادلة. وقد سبق الرئيس موسفيني فى رفض التعاون مع المحكمة الرئيس الجيبوتي عمر قيلي، الذى قال لمجلة فرنسية فى باريس – قبل يومين – إنه (لن ينجرّ وراء المحكمة) على الرغم من مصادقة بلاده على ميثاقها . كما سبق ايضاً لتشاد ان رفضت تحركات الجنايات الدولية – على نحو عملي صريح – باستقبالها الرئيس البشير أكثر من مرة وزيارة رئيسها إدريس ديبي للخرطوم وإجرائه محادثات مع الرئيس البشير. ملاوي ايضاً كانت قد كسرت هذا الحاجز وقدمت الدعوة الرسمية للرئيس السوداني واستقبلته بحرارة ظاهرة ولم تبال حتى الآن بتهديدات مدعي عام المحكمة وإشارته لهذا الأمر فى تقريره الأخير لمجلس الأمن الدولي -أمسية الخميس الماضي . كينيا من جانبها سبق وأن استقبلت الرئيس البشير رغم قرار المحكمة فى العام السابق، وحين ثارت ثائرة البعض فان أحد قضاتها أصدر مؤخراً أمراً بإنفاذ مذكرة الجنايات الدولية، ولكن سرعان ما قامت الدنيا فى نيروبي نفسها، و سارعت بإرسال مبعوث خاص مرموق الى الخرطوم، قدم فى هذا الصدد إعتذاراً حاراً للرئيس البشير وتعهداً من الحكومة الكينية بالطعن فى القرار وبالفعل قدمت وزارة العدل الكينية طعناً ضد القرار هو الآن قيد النظر . وقد تلاحظ ان الحكومة الكينية عانت إرتباكاً دبلوماسياً واضحاً جراء هذا القرار وأختل قدراً من توازنها. هذه الصحوة الأفريقية الكبيرة والرفض المتشدد لمحكمة الجنايات الدولية وإن بدا – بصف عامة – كنتيجة منطقية لازمة للطريقة التى اتبعها المدعي العام المنتهية ولايته لويس أوكامبو، بتركيزه على الافارقة وإنشغاله التام عن أى شيء آخر، إلا أنها من الناحية الاخري يمكن ان نقرأ بين ثناياها أموراً أخري لا تقل أهمية. أولها ان المجتمع الدولي – للأسف الشديد – وبعد عقود من انتهاء الحقبة الاستعمارية والهيمنة الأوربية على دول القارة وممارسات الرق الفاضحة والتفرقة العنصرية، عاد مرة أخري لذات الممارسات مستخدماً هذه المرة أجهزة دولية ظاهرها بريء وعادي، ولكن باطنها يعج بالتناقضات والنوايا السيئة، ولعل هذه الفرضية المؤسفة ربما تفضي الى تنامي الشعور بهذه التفرقة وإحباط الأجهزة العدلية وعرقلة مسيرتها بسبب سوء استخدامها وعدم ارتفاع وتسامي المجتمع الدولي – فى الغرب و أوربا – الى مستوي الممارسة الانسانية الحقّة الرشيدة. ثاني هذه الأمور ان الأمر بدا وكأن الرجل الأبيض هو السيد الأوحد، فالجرائم التي تقشعر منها الأبدان وتُرتكب على نطاق واسع كل يوم وتقوم دول باحتلال دول أخري وترتكب الولاياتالمتحدة عشرات عمليات القتل – خارج نطاق القضاء – و إسرائيل تفعل ذات الشيء، وفرنسا فعلت فى رواندا ما لا يصدقه عقل، ومع ذلك فإن هؤلاء يظلوا بمنأى عن أى مساءلة، فكيف يقبل الافارقة الإذلال مرتين؟ مرة حين أُستعمِروا وسِيقوا الى الغرب عبيداً، ومرة أخري حين يُراد تأديبهم وملاحقتهم عبر العدالة الدولية الكذوبة؟ الأمر الثالث ان القضاء الإفريقي – فى ظل وجود الاتحاد الإفريقي، ومجلس السلم الإفريقي – ربما يفكر فى إنشاء منظمة افريقية تُعني بهذا الشأن طالما ان المجتمع الدولي وصل الى هذا الدرك السحيق من الاستهانة بدول القارة لدرجة إصدار مذكرات التوقيف بحق رؤساء فى السلطة، إستناداً الى أدلة لا يعرفها أحد، ولم تتم بإجراءات قانونية صحيحة، ومختلطة بتقارير استخبارية وسياسات دول لها أجندتها ومصالحها؟ إن الانسحاب المتدرج لدول القارة الافريقية الذى بدأ فى التصاعد إنما تم بفضل ممارسات المدعي العام أوكامبو ولن يجدي فى هذا الصدد إعادة إصلاح الأمر وإجراء عملية إحلال وإبدال، وترشيح مدعي عام جديد. لن يجدي مطلقاً فقد كانت الرسالة من البلاغة بحيث لم تعد فى حاجة الى تفسير أو شرح أو متون وحواشي .