كان المتمرد الدارفوري مني أركو مناوي أول المسارعين بأخذ العِظة والعِبرة من مصرع زعيم حركة العدل والمساواة د. خليل إبراهيم . ومع أن مصرع خليل حمل فى طياته عشرات العظات السياسية الجديرة جميعها بأن تُؤخذ جيداً من جانب من تبقي من حَمَلة السلاح فى دارفور وفى غير دارفور إلاّ أن مناوي – بحسب اجتهاداته السياسية – فضّل فى هذه المرحلة أخذ عظتين فقط. أولاهما فتح الباب واسعاً للحوار والتفاوض مع الحكومة السودانية والتخلي عن التعنت والتصلُب فى المواقف. والعظة الثانية هى تحاشي إرسال واستقبال المكالمات الهاتفية – عبر الهاتف النقال –لتفادي إجتذاب القذائف القاتلة! وبالطبع لا يبدو أن الإعتبار والاتعاظ بهذا القدر لدي مناوي كافياً ولكن كما قلنا فإن هذه حدود اجتهادات الرجل وِفق منظوره ووفق ما يُعرف لدي المقاتلين بتقدير الموقف الذى من المحتم أن الرجل سارع بإجرائه وهو يري كيف أن رجلاً مثل دكتور خليل كان يشغل الساحة ويملأ الأرجاء ضجيجاً غاب فى ثواني وقد دهمته القذائف المميتة وهو يغطّ فى نوم عميق بحسب منسوبي حركته. غير أن الأمر الذى يستحق أن نشير إليه ونقف عنده طويلاً هنا هو ما إذا كان مناوي يستشعر مخاوفاً بدرجة ما، من أن يلحق بذات مصير خليل. ومن المؤكد أنه أعاد قراءة الماضي بإمعان حين أهدر أربعة أعوام غاليات عقب توقيعه على اتفاق أبوجا (مايو 2006) وخرج بعدها من الخرطوم بلا مبررات موضوعية ودون خيارات سياسية تستحق الإحترام، حيث لم نجد – وقد نقّبنا بعناية فى تاريخ مناوي أثناء وجوده شريكاً فى العملية السلمية فى الخرطوم – سبباً موضوعياً واحداً يدعوه الى مفارقة حظيرة الشراكة والخروج مغاضباً وإغلاق الباب وراءه بإحكام. فقد كان خطأ مناوي الذى لا يُغتَفر أنه لم يعمل على بناء أدني قدر من العلاقات الجيدة مع بقية القوى السياسية السودانية للدرجة التي لم تَهتمَّ كثيراً بخروجه تماماً كما لم تهتم بدخوله فى العام 2006. يُضاف الى ذلك أن المقعد الذى حصل عليه حينها - ككبير مساعدي الرئيس ورئيس السلطة الانتقالية لدارفور - لم يحصل عليه أحد من بعده؛ إذ أن زعيم حركة التحرير والعدالة د. السيسي رغم كونه أكثر خبرة وأوسع علاقات وله مقبولية جيدة فى دارفور إلا أنه لم يحظ بمنصب مركزي مرموق كما حصل عليه مناوي، فالسيسي حالياً هو فقط رئيس السلطة الإقليمية فى دارفور وليس له مقعد فى القصر الرئاسي بالخرطوم. لقد كان بإمكان مناوي - انطلاقاً من ذلك المنصب السيادي الرفيع - أن يحقق وينجز الكثير إن كان سياسياً متوسط المهارة فقط، وحينها كان سوف يعزز من وضعه ويمنحه دفعة أكبر، لهذا فحين يفكر مناوي - والشمس تؤذن بالمغيب - بفتح الباب للحوار فهو فى حاجة الى جهد خرافي ليحصل على عُشر ما كان يملكه فى السابق وهذا ما يجعل أخذ العظة جاء بعد فوات الأوان. من جانب ثانٍ، فإن مناوي بموقفه هذا يعطي انطباعاً بأنه يستشعر وحشة سياسية وعزلة ضربها هو على نفسه وكَسرها يحتاج هو الآخر الى أكبر من جهد مضاعف وبسرعة. إن مثل هذا الموقف الذي يقفه الآن مناوي هو بالضبط التجسيد الحيّ لأزمة الذين تسبّبوا فى تعقيد أزمة دارفور من قادة الحركات المسلحة، فهم مغامرين وراكِبي أمواج، وبعضهم إستهوته فكرة حمل السلاح طالما أنها تجلب في خاتمة المطاف مكاسباً شخصية، فقد كان الكثيرين من قادة الحركات الدارفورية – ولا شك أن مناوي منهم – يضعون نموذج الحركة الشعبية فى جنوب السودان نصب أعينهم، يحلمون بالسلطة الكبيرة، وإقتسام كل شيء مع المركز ولم يلاحظوا الفارق الجوهري بين الحالتين. وعلى أية حال فإن أخذ العظة أمر محمود كونه يعمل على توسيع مدارك الآخذين بالعظة ويجعلهم يضعون حساباً للأحداث؛ ويبدو أن مناوي من أولئك الذين تصنعهم الأحداث !