تغيرت النبرة العامة في البلاد حول موضوع الوحدة والانفصال وأصبح الترجيح في الأحاديث التي ترد في أجهزة الإعلام من قبل بعض قيادات الدولة مركزا على الانفصال وكأنه أمر واقع.. ويتحدثون عن فترة ما بعد الاستفتاء بافتراض وقوع الانفصال حيث يؤكدون استعدادهم لتلك المرحلة ويتحدثون عن حسن الجوار بين الدولتين الجارتين والعلاقات (النموذجية) والاعتراف الفوري ب(الدولة الجديدة) في الجنوب.. وإذا كنا نرى ما هو إيجابي في تأكيد حسن الجوار في حالة الانفصال إلا أن مستوى التركيز على الانفصال جعل الشارع السوداني يعتقد وكأن الشريكين قد اتفقا على ذلك وانتهى الأمر.. وتلك هي الخطورة في هذا الاتجاه.. فنحن نتحدث (ببراءة) وكأننا لا نعي مخاطر الانفصال.. إن انفصال الجنوب عن الشمال في هذه المرحلة التاريخية بالتحديد أمر بالغ الخطورة على الشمال والجنوب على السواء، وكل ما نقوله اليوم (ونحن في البر) عن حسن الجوار والعلاقات النموذجية بين الدولتين الجارتين سيتبخر عندما يقع الانفصال فتتدخل الأيادي الأجنبية بقوة لتثير المشكلات بين الشقين وتعمل على الوصول بالأمر إلى حافة الحرب وذلك كما يلي: أولا: إن ما هو موجود من مشكلات بالجنوب مرشحة للانفجار بعد الانفصال بشكل قوي وكبير وأعني بذلك الصراعات والاقتتال القبلي سنجدها سببا مباشرا لتعكير صفو العلاقات بين الدولتين.. وذلك لأن شمال السودان سيكون هو المتهم بأنه يفجر تلك الخلافات وسيقولون عنه أنه يصدر السلاح إلى بعض القبائل ويحرضها على الأخرى ويقولون عنه أنه يتدخل في الشئون الداخلية وسيشتكونه لمجلس الأمن.. وهنالك دول جاهزة لتبني مثل تلك الشكوى رغم علمها بأنها باطلة وذلك لأنها ستكون ثغرتها لإيذاء دولة الشمال والاستمرار في الضغط عليها تنفيذا لمخطط إسرائيل (القديم المتجدد).. وبالتالي سيكون هنالك توتر دائم على الحدود ومناوشات وتفلتات وهجمات قبلية متبادلة.. وقد تنزلق الأمور إلى الحرب بين الدولتين.. خاصة وأن الحركة الشعبية لتحرير السودان غير قادرة على السيطرة الكاملة على الجنوب وضبط التفلتات وهذا واضح منذ الآن حيث وصلت التفلتات والاقتتال القبلي مراحل غاية في الخطورة.. وأمامنا كيف اكتسح الجيش الشعبي للحركة منطقة أبيي بدون أي انضباط حتى احترقت المدينة كلها ولست على علم بأن ذلك قد تم بقرار فردي في مناطق العمليات أم أنه قرار قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، ولكنه في كل الأحوال شكل من أشكال التفلتات وعدم الانضباط.. وعليه فإن ما نقوله اليوم عن حسن الجوار لا توجد أية ضمانات حقيقية له وذلك لأن الواقع سيكون أقوى من النوايا.. ثانيا: نأتي بعد ذلك للأضرار التي ستصيب جنوب البلاد داخليا.. إذ تتمثل تلك الأضرار في أن الصورة الواضحة اليوم للعلاقات بين القبائل والصراعات القبلية لا تبشر بأن الاتفاق ممكن بين قبائل الجنوب على حكومة موحدة.. ومن هنا فإن هنالك الكثير من القبائل تشعر بالغبن وبسيطرة قبائل محددة على الوضع والامتيازات.. وبالتالي ستثور تلك القبائل وتندلع الحروب الأهلية داخل الجنوب بصورة مأساوية.. ولن تتمكن أمريكا ولا غيرها من الذين يضغطون الآن على قيادات جنوبية لتقبل بالانفصال أن توقف حالة الاقتتال القبلي والتفلتات الأمنية.. وبالطبع رأينا الحساسيات حتى بعد اتفاقية أديس أبابا عام 1972 والتي أوقفت الحرب مدة عشر سنوات.. فالإستوائيون لم يقبلوا بالجنوب كإقليم واحد وطالبوا بتقسيمه إلى ثلاثة أقاليم واستجاب لهم نميري فكانت تلك قاصمة الظهر للاتفاقية كلها فانفجرت الحرب الأهلية من جديد بقيادة قبيلة الأكثرية، وفي ظل التمرد حملت قبائل أخرى السلاح وكانت ضد الحركة الشعبية التي كانت في نظرها تمثل قبائل بعينها دون أخرى.. والآن بعد اتفاقية نيفاشا 2005 نرى قبائل تحمل السلاح وتقوم بهجمات على قبائل أخرى ونرى صراعات وتفلتات أمنية يروح ضحيتها المئات بل الآلاف.. ولم تتمكن الحركة الشعبية لتحرير السودان من ضبط الأوضاع الأمنية هناك رغم أن كل الجنوب في يدها.. والكثيرون يقولون إن الجنوب (موحد) الآن لأن له قضية مع (الشمال) ولكن إذا انتهت القضية ووقع الانفصال فستتجه الأمور بعد ذلك لتصفية الحسابات داخليا.. وهو قول فيه الكثير من المنطقية.. ومن يعتقد بأن أمريكا وإسرائيل قادرتان على مساعدة الجنوبيين على تجاوز الصراعات الداخلية فهو مخطئ (عن عمد وسبق إصرار) أو (واهم) إذ إن هاتين الدولتين في حالة الحروب الأهلية ستقفان موقف من يمد كل الأطراف بالسلاح ويقف ليتفرج عليهم وهم يقتتلون مع إحساس بالغ بالنشوى لدى إسرائيل.. نقلا عن صحيفة الرائد السودانية 26/1/2010م