ما من شك أنّ اعتداء دولة جنوب السودان علي جارها السودان والسعي لإحتلال أراضيه، هكذا عنوة وبلا مبِّرر موضوعي، عمل عدواني خطير، ويشكل في الأعراف والقوانين الدولية إعلاناً للحرب أياً كانت النوايا والمبررات. وبالطبع لا يوجد في التقاليد الدولية ما هو أخطر من ذلك، لأنه بمثابة عمل تخريبي يهدف لنسف استقرار دولة ذات سيادة والعبث بأمنها واستقرارها وتهديد بقائها. غير أن هنالك ما هو أخطر من هذا العدوان، ذلك أن بإمكان الجيش السوداني – ذي التاريخ المجيد والقدرات المعروفة – أن يتعامل مع الحدث وأن يرُد العدوان، ويعيد الأمور إلي نصابها؛ ولكن ما يسبب البلبلة ويشكل خطراً أكبر من ذلك، المعارضون الذين يساندون العدوان - سلباً أو إيجابا - فالذين صمَّوا أذانهم، وأغلقوا عيونهم، وملأوا أفواههم بالماء وانعقدت ألسنتهم ولم يدينوا العدوان هم مساندون له سلباً، إذ أنهم – بهذا الموقف – يمنحون العدوان مشروعية ويعينون المعتدين علي بلادهم. والذين يملأون الساحة انتقادا وشماتة ويعتقدون أن بإمكانهم التخفِّي وراء النقد وسبّ المسئولين إنما يساندون العدوان إيجاباً. وفي الحالتين، فإن هؤلاء يشكلون معاً خير سند وعون للمعتدين؛ بل لا نغالي إن قلنا أن أكثر ما يشجع الحركة الشعبية وجيشها الشعبي لتنفيذ عدوانهم هو قوي المعارضة السودانية التي لها ارتباط – كلٌ بدرجة ما ولمصلحة ما – بها منذ أن كانت الحركة شريكاً في الحكم في فترة الانتقال المنتهية في العام 2011. ولعل أكثر ما يؤسف المرء هاهنا أن بعض هذه الأحزاب مثل حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي سمحت لنفسها بالإرتباط بما يسمي بالجبهة الثورية، الوثيقة الصلة وعلي نحو مباشر بعدوان الحركة الشعبية؛ إذ من المعروف قيام نصر الدين المهدي بعقد اتفاق (سِّري) مع قادة الجبهة الثورية، بصرف النظر عن رضاء أو عدم رضاء الحزب لاحقاً، فقد تم اللقاء منذ البداية بعلم ومباركة الحزب وقيادته. السيد مبارك الفاضل أيضاً أحد أبرز الساسة السودانيين ميكافيليةً وغموضاً وارتباطاً بالأجنبي؛ دعا طرحة وعلناً لإيجاد رابط وثيق بالجبهة الثورية وثيقة الصلة بدولة الجنوب والعدوان. الحزب الاتحادي هو الآخر انغمس أحد قادته في عقد اتفاق مع ذات الجبهة الثورية أملاً في أن تحقق لهم ما عجزوا عن تحقيقه. وفي دوائر الشعبي والشيوعي لم نسمع حتى الآن إدانة صريحة أو ضمنية لعدوان الجيش الشعبي علي منطقة هجليج واحتلالها مع أن الأمر في هذه الحالة يُعتبر عدواناً علي أرض سودانية وتهديداً لأمن وسلامة وطن، وليس تهديداً لنظام حكم أو سلطة حزب. الواقع هذه هي مصيبة قوي المعارضة السودانية التي لا نجد لها علاجاً، فهي إن كانت ضد السلطة الحاكمة فهي في ذات الوقت ضد الوطن، وضد الدولة ولا تفرِّق بين الوطن والسلطة؛ ولا تكترث لمآلات الأمور ومخاطرها ومترتِباتها، بل إنها في خضم الأزمات، تبحث في جيوب الدولة وتفتش أمتعة الحكومة علّها تجد شيئاً تسرقه! أن مثل هذا المسلك (غير الوطني) هو الذي يشجع المعتدين ويوفر مناخاً خصباً لكل معتدي، فقد ضعُف الوازع الوطني، ومات الضمير السياسي في الصدور. ولعل الأكثر مدعاة للأسف والحسرة، إنَّ ذات هؤلاء القادة المعارضين يتشدَّقون بطيّب الكلام ومعسوله ويتعبَّدون في المحراب الوطني حتى لكأنّهم عشاق صادقين متفانين في حب بلادهم، ولكنهم ما أن يختلوا بعدوٍ من أعداء البلاد إلا وصادقوه، وإرتموا في حضنه! إنهم دون شك أخطر من العدوان وأخطر من العدو نفسه!