كما كان مُتوقعاً تماماً وسبق أن أشرنا إليه في حينه، فقد بدأ الجيش الشعبي التابع لحكومة جنوب السودان في البحث عن انسحاب آمن، يكفل له الخروج من ورطة إجتياح منطقة خارج حدوده من المستحيل تماماً البقاء فيها حتى ولو إمتلك ترسانة من الأسلحة بحجم الدولة الجنوبية بأسرها، وهو أمر معروف على النطاق الدولي، ذلك أن الإحتلال – أيّاً كانت مبرراته – يظل أبداً عملاً عالي الكُلفة، باهظ الثمن ولا يحقق بحال من الأحوال أدنى هدف تكتيكياً كان أم استراتيجياً للمحتل. فقد رأينا كيف عرضت الحكومة الجنوبية سقفاً عالياً للإنسحاب، لأول وهلة وفي بداية الهجوم، حين قرنت الانسحاب بإنسحاب مُماثل من جانب الحكومة السودانية من أبيي. ثم تدحرج الطلب الى درجة أقل، قالت فيه إنها يمكن أن تنسحب إذا أمكن استجلاب قوات دولية لترابط فى المنطقة. ثم تدحرج الطلب أكثر – وِفق ما أوردته قناة الجزيرة أمسية الاثنين الماضي – ليصل الى حد كفالة انسحاب آمن عبر ضمانات تُقدَم للحكومة الجنوبية بإستتباب الأمن في المنطقة. وهو ما يُفهم منه أن الجيش الشعبي يبحث عن (رداء دولي آمن) يؤمن له ظهره وهو ينسحب جنوباً، وفي ذات الوقت يوفر له حماية لاحقة من أن تطاله ضربات من جانب الجيش السوداني إقتصاصاً منه. كما لا يُستبعد أن يكون وراء العرض، قطعاً لطريق تحميله مسئولية الدمار الذي ألحق بمنشآت النفط في هجليج. بإختصار بات الجيش الشعبي يبحث عن ما يحول بينه وبين أن يتحول الى فريسة في يد الجيش السوداني، لن ينجو منها أبداً. والسؤال هو لماذا وصل الحال بالجيش الشعبي الى هذا الدرك، بهذه السرعة، وبهذه الكلفة؟ الواقع إنَّ واحدة من أبرز وأهم الأسباب التي أدت الى ذلك، الاستراتيجية الخطيرة – بعيدة المدى – التي إتخذها الجيش السوداني بقطع خطوط الإمداد عن الجيش المحتل، وهذه من أكثر الأمور سوءاً لأيِّ جيش، حيث يجد نفسه محاطاً بسياج شائك من الجوع ونقص المؤن والذخائر وعدوّه يحيط به إحاطة السوار بالمعصم؛ في هذه الحالة لا يتكبد الجيش السوداني أي عناء، وبوسعه أن يجلس متفرجاً إذا أراد ليهلك الجيش الشعبي بلا قتال، حين تتكفل الظروف الطبيعية وحدها بأداء المهمة بإقتدار وجدارة. خاصة وأن الخطأ المميت الذي وقع فيه الجيش الشعبي أنه حشد الآلاف من جنوده لهذه المهمة المستحيلة وقذف بهم الى المنطقة ثم تخير مواقعاً عديدة ليزرع فيها ألغاماً بصورة عشوائية، لتتكفل هى الاخرى -أي الألغام- بجانب من مهمة حصد أرواح مقاتلي الجيش الشعبي. الأمر الثاني أن الحكومة الجنوبية – وكأمر طبيعي جراء عملية الاحتلال – وجدت نفسها محاصرة دولياً وكلما انقضى الوقت إزداد موقفها سوءاً وتفرّق الأصدقاء وانفضَّ الحلفاء من حولها، فإحتلال أراضي الغير بالقوة من أكثر الأمور المستهجنة دولياً لأنها إذا جرى تشجيعها فسوف تحول العالم الى غابة وفوضى بمعني الكلمة، ولا تستطيع جوبا تحمل تبعات خسارة دول العالم، ومن ثم إضعاف موقفها التفاوضي فى مواجهة جارها السودان. الأمر الثالث، إن عملية الاحتلال نفسها – حتى ولو لم يتم قطع الإمداد وحتى ولو ضربت عرض الحائط بالمواقف الدولية – مكلِفة ومرهقة مادياً ولا تستطيع الحكومة الجنوبية حتى ولو لم تتعرض لقتال، الإستمرار فيها لشهر واحد خاصة وأن الموازنة العامة للدولة الجنوبية – الناشئة لتوِّها – تبدو في الوقت الراهن الموازنة الأسوأ بعد وقف ضخ النفط. وأخيراً يبدو ان الجيش الشعبي يخشى الدخول في مواجهة مفتوحة شاملة مع الجيش السوداني، يغيب فيها عنصر الحق الذي يعتبر ضرورياً للأداء القتالي الجيد، فالذي يقتل من أجل أرضه و حقوقه ليس كمن يقاتل فقط من أجل رغبات قادة بالمخالفة لأيِّ أعراف وتقاليد دولية. هكذا إذن بدأ الجانب الجنوبي بالصراخ، وهي دون شك نتيجة متوقعة ولكن هل يحول كل ذلك دون إنزال العقاب؟ هذا هو السؤال الذي يتردّد الآن في أذهان قادة الجيش الشعبي بعدما انقضت حالة الانتشاء وأصبح عليهم ان يواجهوا الواقع المرير!