هل ثورات ما يعرف ب"الربيع العربي" بدأت تتحول إلى رماد فعلًا؟ وهل هي ثورات وفق المفهوم المصطلح عليه أم هي مجرد اضطرابات واحتجاجات، وأقرب إلى التوصيف الأميركي وهو "الفوضى الخلاقة"؟ إن ما يجري الآن بعد أكثر من سنة على انطلاق "الربيع العربي" كما يحب أن يسميها البعض أو الاحتجاجات والاضطرابات والفوضى كما يحب أن يطلق عليها البعض الآخر، جعل المتابع لمسار الأحداث حائرًا بين أي التوصيفين أقرب لما يدور في دول "الربيع العربي". طبعًا لا أحد يختلف على تلك العفوية التي بدأت بها حركة الشباب في دول "الربيع العربي" للتعبير عن رفض مظاهر الظلم والاستعباد والإذلال والديكتاتورية، والفساد، والرغبة في تغيير هذا الوضع المزري إلى وضع أحسن حالًا. وعلى الرغم من هذه العفوية والإرادة الذاتية لدى الشباب المحتج أو "الثائر"، فإن حركته للأسف كما يبدو لم تتوافر لها البوصلة الموجهة والدالة على الوجهة الصحيحة، ولم يتوافر لها المرشدون المفكرون لكي يتم تطعيمها بالأفكار والآراء التي تبحر بها حتى ترسو إلى شواطئ الأمان والاستقرار، فتتمكن على وجه السرعة من إحداث التغيير المنشود، ما أحدث فراغًا وصراعًا كبيرين. ونتيجة لهذا الفراغ والصراع الكبيرين، بقيت حركة الشباب في مهب الريح تتقاذفها في كل الاتجاهات، ما جعلها فريسة سهلة في فم الوحش الغربي وتحديدًا الولاياتالمتحدة صاحبة بدعة "الفوضى الخلاقة" التي أعلنت شهادة ميلادها كونداليزا رايس وزيرة الخارجية في إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش "الصغير"، حين كانت الدماء الزكية وأشلاء الأطفال الأبرياء على جانبي الطرق وفي المنازل المدمرة جراء العدوان الإسرائيلي الغاشم على لبنان صيف عام 2006م، حيث سئلت الوزيرة الأميركية: إنها دماء بريئة تسفك ما ذنبها؟ ردت بأن ذلك هو "الفوضى الخلاقة"؛ مخاض ميلاد ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الجديد. وبينما يتصارع "المحتجون/ الثائرون" على تحقيق أهوائهم ومصالحهم الذاتية، كان مفكرو الوحش الغربي خاصة توني بلير رئيس وزراء بريطانيا المستقيل يمدون هذا الوحش بالأفكار لتجيير أحداث "الربيع العربي" لصالحهم، ولمصلحة حليفهم الكيان الإسرائيلي المحتل الغاصب. لسنا ضد التغيير ولا نكرهه، ولكن يجب أن يكون إلى الأفضل والأحسن ويزيل الوضع الأسوأ القائم، لا يضيف إليه سوءًا ويضفي عليه قتامة وسوادًا، فما يجري في مصر المحروسة لا يسر مصريًّا غيورًا على مصره، ولا يسر مواطنًا عربيًّا غيورًا على عروبته ووحدتها ولمِّ شملها، فالحاصل في أُم الدنيا هو حالة صدام بين المجلس العسكري أو بالأحرى المؤسسة العسكرية وبين ذوي ثورة الخامس والعشرين من يناير، وصدام أيضًا بين الفرقاء "الثوريين"، مصحوبًا بصراع عنيف بين مختلف هؤلاء الفرقاء ومحاولة كل فريق الظفر بأكبر نصيب من كعكة الوطن، ما يهدد هذا الصراع باستمرار الوضع غير المستقر في مصر، وكأن هو المقصود بهدف إنهاك المؤسسات الحكومية الرسمية بما فيها المؤسسة العسكرية وتدمير الاقتصاد المصري. والحال في ليبيا أسوأ عنه في مصر، فقد باتت اليوم دولة أقرب إلى الفشل، مستقبلها يشير إلى تحولها إلى دولة ممزقة مهشمة، خاصة بعد أن ضمن الوحش الغربي (فرنسا، بريطانيا، إيطاليا) كل قطرة نفط ليبية، دولة لا صوت يعلو فيها على صوت القتال وقعقعة السلاح بين أعداء اليوم وأصدقاء الأمس ضد العقيد الراحل معمر القذافي ونظامه الديكتاتوري، فأصبح تهريب السلاح والمقاتلون علامة تجارية ليبية مسجلة بامتياز، وما يحدث في سوريا صورة أخرى من صراع ينبئ بأنه لن ينتهي، وأنه معد ويسير بعناية فائقة حتى ينتهي إلى تدمير الدولة السورية وتهشيم جيشها القوي وإضعافه. أما اليمن فهو الآخر يعاني صراعًا داخليًّا مريرًا من أجل استعادة استقراره ووحدته، والقضاء على الأسباب المؤدية إلى ذلك، فالمبادرة الخليجية لم تقدم له الحل المرتجى، وإنما قدمت حلًّا ناقصًا يجني اليمنيون تبعاته الآن. لهذا كله، نقول إن ما يحدث الآن هو الأقرب الى صورة " الفوضى الخلاقة " التي أعلنت ولادتها كونداليزا رايس لتغيير خريطة الوطن العربي، لمصلحة أطراف تصنف في خانة الأعداء للمنطقة بأسرها، ورايس آنذاك حين تحدثت عن التغيير لم تستثنِ أحدًا حتى الأنظمة الحليفة للولايات المتحدة، متَّبعة طريقة أخرى. ولذلك على شعوب دول ما يسمى "الربيع العربي" أن تصحو من غفوتها قبل أن يأخذها قطار التغيير الغربي، وتبديد المخاوف، وإثبات نزاهة ثوراتها وصدق توجهاتها، قبل أن تتحول إلى رماد، بل إلى جمر يحرق المنطقة بأسرها. المصدر: البيان 6/5/2012م