تهديدات جديدة أطلقتها حكومة جنوب السودان، بالسيطرة عسكرياً على منطقة أبيي، إذا لم تنسحب منها القوات المسلحة. وليس من جديد ليعيد تلك التهديدات سوى ما قالته حكومة جوبا عن سحب قوات الشرطة التابعة لها من البلدة، وهو ما تشككت حكومة الخرطوم في صحته، ورأت أن تهديدات حكومة جوبا تأتي في سياق تضليل للرأي العام الدولي، ومحاولة لشد انتباهه لإظهار الخرطوم في موضع محرج ليس غير. لكن لا يبدو الأمر بالنسبة للمراقبين في ذلك السياق لوحده، بدليل أنه عندما نطقت جوبا بكلمة "أبيي"، ترددت أصداءها في أنحاء المجتمع الدولي القريبة والبعيدة خلال اليومين الفائتين. ودأبت حكومة جنوب السودان علي إطلاق التهديدات هكذا، دون أن تدري ما يمكن أن تسوقها مثل هذه التهديدات إليها من أزمات، وليس ببعيد سيناريو هجليج، التي دخلتها قوات الجيش الشعبي بناءً على تصريحات علنية أطلقها رئيس حكومة جوبا، سلفا كير ميارديت، لتمنى فيها قواته بهزيمة ذات أبعاد متعددة، تمثلت في متلازمة هزائم عسكرية واقتصادية ونفسية لا زالت تعاني الدولة الوليدة من ويلاتها المتصاعدة. واستبقت حكومة جوبا تلك التهديدات بإعلانها سحب قوات الشرطة التابعة لها من أبيي، مصورة الأمر للرأي العام العالمي وكأنه استجابة فورية لقرار مجلس الأمن الأخير الذي دعا الطرفين – السودان وجنوب السودان – بسحب قواتهما الموجودة في أبيي في غضون أسبوعين. وقال مسئول ملف أبيي في حكومة جنوب السودان، لوكا بيونق، لدى مخاطبته حفل أمس الأول، "إذا لم تسحب الحكومة السودانية قواتها بنهاية يوم الخامس عشر من هذا الشهر سأطلب من الحكومة التدخل عسكرياً للسيطرة على أبيي". لكن الخرطوم لم تلق اهتماما كبيرا لتصريحات المسئول الجنوبي، وقللت منها ورأت فيها مجرد محاولة من حكومة الجنوب لتضليل المجتمع الدولي. واعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية، العبيد أحمد مروح، تهديدات جوبا تأتي في سياق تضليل متعمد من حكومة الجنوب للرأي العام الدولي، موضحا في تصريحات أمس الأول، أن الانسحاب من أبيي محكوم باتفاق ترتيبات انتقالية وقِّع العام الماضي، بحيث يحصل انسحاب متزامن للطرفين من أبيي ومرَاقب من ممثلين للجانبين والقوة الأممية الموجودة في المنطقة، وقال مروح " إن تهديدات جوبا لا تعنينا، ونحن مستعدون مبدئياً للانسحاب من أبيي بشرط أن يكون هناك انسحاب متزامن لقوات الجانبين ومراقب أممياً، وفقاً لترتيبات إدارية وأمنية متفق عليها". وتتمحور اشتراطات الحكومة لسحب القوات المسلحة من أبيي، في جملة خطوات وقد أبلغت الأممالمتحدة والمجتمع الدولي بتلك المطالب وفي مقدمتها تشكيل إدارية للمنطقة لتملأ الفراغ الإداري الذي سيحدث، واكتمال نشر قوات الأممالمتحدة الإثيوبية العاملة على حفظ السلام بالمنطقة والمعروفة اختصارا ب"يونسيفا"، بجانب إنشاء لجنة للتحقق من إنفاذ الانسحاب. وتشكل اشتراطات الخرطوم ذات النقاط التي نص عليها اتفاق الترتيبات الانتقالية المشار إليه آنفا والموقع في أديس أبابا في العشرين من يونيو العام الماضي، وقد نص الاتفاق على ترتيبات إدارية وأمنية مؤقتة لمنطقة ابيي، على رأسها تكوين إدارية منطقة ابيي، على أن يكون رئيس الإدارية مرشحا من قبل الحركة الشعبية وتوافق عليه حكومة السودان ويكون نائبه مرشحا من حكومة السودان وتوافق عليه الحركة الشعبية، وتتهم الحكومة جوبا بتعطيل تكوين الإدارية بسبب رفضها للأسماء التي رفعتها الخرطوم. كما نص الاتفاق على تشكيل لجنة تتولى الرقابة المشتركة في البلدة، وتقوم مقام رئيسي البلدين – السودان وجنوب السودان -، فيما يلي الرقابة السياسية والإدارية. وتضمنت الترتيبات الأمنية إزالة أية مظاهر عسكرية في منطقة أبيي وإعادة انتشار القوات المسلحة السودانية وقوات الجيش الشعبي لتحرير السودان، خارج حدود المنطقة. ونشر قوة أمنية مؤقتة في المنطقة، وأن يكون هناك مراقبون عسكريون. وجاء اتفاق الترتيبات الإدارية والأمنية لأبيي، في أعقاب أحداث مثيرة شهدتها المنطقة، دفعت بالقوات المسلحة للسيطرة على الأوضاع فيها. ووقعت الأحداث جراء كمين نصبته قوة من الجيش الشعبي، لقافلة مشتركة تتألف من وحدات من القوات المسلحة وقوات الأممالمتحدة العاملة بالمنطقة وذلك قرب أبيي، في التاسع عشر من مايو العام الماضي. وجاء الكمين اثر محاولة سابقة من الحركة الشعبية للسيطرة على أبيي، وهو ما دفع بالقوات المسلحة إلى اجتياح المنطقة وبسط سيطرتها بالكامل عليها في الحادي والعشرين من ذات شهر مايو. وأعقب تلك الأحداث تحركات ماكوكية للمجتمع الدولي ولجنة الآلية الأفريقية رفيعة المستوى برئاسة ثامبو أمبيكي، والتأم اجتماع رفيع جمع رئيس الجمهورية، عمر البشير، ونائبه الأول حينذاك، رئيس حكومة الجنوب، سلفا كير ميارديت، بحضور الآلية الأفريقية في أديس أبابا، وأمّن على أن أبيي ستظل شمالية حتى قيام الاستفتاء الإداري الخاص بها، كما أمنّ على أن القوات المسلحة لن تنسحب من المنطقة حتى تنتشر القوات الإثيوبية التابعة للأمم المتحدة في المنطقة. وعلى اثر تلك الاتفاقات وبطلب من الطرفين، أقر مجلس الأمن الدولي في يونيو من العام الماضي، نشر 4200 جندي إثيوبي في منطقة أبيي لتولي مهمة حفظ السلام هناك، تحت علم الأممالمتحدة وهي القوات التي لا زالت الخرطوم تطالب باستكمال نشرها كأحد اشتراطاتها للانسحاب من أبيي. إعلان حكومة جوبا سحب قواتها من أبيي، والذي هو موضع شك لدى حكومة الخرطوم، التي تراه محاولة من جنوب السودان لتضليل الرأي العام الدولي، لإحراج الحكومة السودانية، ومن بعد تهديدات حكومة جنوب السودان، بالسيطرة عسكرياً على منطقة أبيي، أعادت المنطقة إلى صدر الأحداث بعدما تراجعت عنه هجليج، وبدا المجتمع الدولي من جديد مركزا على أبيي، فقد دعا الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، أمس الأول، السودان إلى سحب قواته من أبيي، وقال الناطق باسم الأمين العام للمنظمة الدولية، مارتن نيسيركي، في بيان، إن بان دعا حكومتي البلدين إلى الالتزام بالمهلة التي حددها مجلس الأمن الدولي لبدء مفاوضات حول كل نقاط الخلاف. وأضاف "إن الأمين العام يرحِّب بسحب جنوب السودان قواته الأمنية من منطقة أبيي ويدعو بحزم حكومة السودان إلى سحب قواتها من المنطقة". وقال المتحدث باسم الأمين العام إن القوات الأممية المؤقتة في أبيي أفادت بأن المفتش العام لجنوب السودان أمر رسميا بسحب عناصر الشرطة من المنطقة. وأضاف أنه فور الإعلان نقل نحو 700 من عناصر الشرطة إلى جنوب السودان، مشيرا إلى أن البعثة الأممية بصدد التحقق من أن جميع عناصر الشرطة قد انسحبوا من أبيي. وقد أمهل مجلس الأمن البلدين في قراره الأخير حتى منتصف مايو الحالي لسحب قواتهما من أبيي وبدء مفاوضات سلام حول كل القضايا الخلافية، مهددا باتخاذ إجراءات إضافية بتوقيع عقوبات عليهما في حال عدم الالتزام. ومثلما أثارت تصريحات رئيس حكومة الجنوب سلفا كير عندما أعلن أمام الملأ دخول قواته إلى هجليج، وتهديداته العلنية بالعودة لاحتلالها، استغراب المجتمع الدولي ودهشته معا، تعاود جوبا نسج ذات السيناريو بمقاس أبيي، والتي سبق أن هدد جوبا مرات بالسيطرة عليها. تثير تهديدات لوكا بيونق ذات الاستغراب، ومن شأن ذلك أن يقطع الطريق على محاولات الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي لاستئناف المفاوضات، كما تفتح مثل تلك التصريحات شرفة الولوج إلى حرب ليس كسابقاتها. نقلاً عن صحيفة الرائد 14/5/2012م