بعيداً عما يجري داخل قاعة المفاوضات بين وفديّ السودان ودولة جنوب السودان بمقر الإتحاد الافريقي بالعاصمة الاثيوبية أديس أبابا، وبصرف النظر عما إذا كانت مجريات المفاوضات مشجعة وبنّاءة وقابلة للتطور وإحداث اختراق أم لا؛ فإن من المهم أن نولي إهتماماً خاصاً، بما جري ويجري خارج تلك القاعات لأنّ ما جري ويجري فى الواقع يمكن إعتباره حلقة أو حلقات فى ذات مسلسل المفاوضات الشائك والذى يعتقد الكثير من المراقبين أن ذلك ما هو إلاّ الوجه الآخر لعملية التفاوض. فقد لاحظ المراقبون عدداً من المؤشرات الإيجابية التى جرت على الأرض دون كبير عناء. لنأخذ مثلاً القرار السوداني بسحب الجيش السوداني من مثلث أبيي المتنازع عليه. هذه الخطوة التى قال المتحدث بإسم الجيش السوداني إنها جاءت كبادرة لحسن النيّة، شكلت دون شك دفعاً جيّداً لعملية التفاوض، وأكسبتها قوة ذاتية كانت تحتاجها. قد يعتقد البعض أنها جاءت كخطوة مجانية، أو أن الجانب السوداني قد تسرّع فيها فى ظل غموض الموقف الجنوبي ووجود مخاوف من أن يظل على تعنُّته المعروف؛ غير أنّ الجانب الإيجابي فى هذا المنحي، هو أن أبيي وبإعتباها أحد أهمّ نقاط النزاع بين البلدين، تم نزع فتيل التوتر منها، على الأقل فى المرحلة الراهنة والمقبلة بإشراف المنظمة الدولية على أمنها ومراقبة أوضاعها بحيث تتم أىِّ حلول بشأنها بقدر من السهولة والسلاسة، وبعيداً عن المواجهات المسلحة كما جري أكثر من مرّة فى السابق، وهذه الخطوة فى الواقع تلبي رغبات الحكومة السودانية التى ما فتئت تصرّ على انجاز الملف الأمني كملف له أولوية على بقية الملفات الأخري. بل إن الخطوة السودانية هذه بالإنسحاب من أبيي قابلتها خطوة ايجابية ضرورية من الجانب الجنوبي بإبداء موافقته على سرعة تشكيل إدارية أبيي دون خلافات وتعقيدات وأن يتم كل ذلك فى وقت لا يتجاوز أسبوعاً واحداً. على ذات الصعيد وفى سياق الخطوات الإيجابية المتبادلة، قرّرت الحكومة الجنوبية طرد ما يسمي بالجبهة الثورية من أراضيها، وقالت بعض الأنباء إن الأمر تجاوز مرحلة القرار، الى مرحلة التنفيذ. وهى خطوة أيضاً تصب فى ذات مصب الملف الأمني، حيث يشكل الدعم الجنوبي المتواصل للعمل المسلّح ضد السودان واحداً من إحدي أهمّ نقاط النزاع المزمنة بين الطرفين ومن الممكن - إذا حَسُنتْ نيّة الطرف الجنوبي أكثر - أن يحل الملف الأمني نفسه بنفسه، على هذا النحو العملي على أرض الواقع. وتشير متابعات (سودان سفاري) فى هذا الصدد الى ان الجانب السوداني وإن بدا غير مطمئن كل الطمأنينة لهذه الخطوات، إلاّ أنه يبدو قادراً على متابعة الأمر على أرض الواقع بآليات فاعلة بوسعها أن تكشف له عن صدقية ما إلتزم به الجانب الجنوبي من عدمها. ولا شك أن هذه المؤشرات بدت ضرورية لحلحة النزاع والذى لا يمكن أن يُحل فقط داخل غرف التفاوض؛ ففي كل عملية تفاوض هنالك دائماً حاجة الى (قنوات أخري) تمضي بالتوازي مع مسار المفاوضات لتسريع وتيرتها والعمل على إنجاحها، وقد رأينا كيف أن مفاوضات نيفاشا 2005 تم إختيار مكان هادئ، بعيد عن كاميرات وأقلام الإعلام، وتُرِكَ المتفاوضون لأشهُر وأسابيع وحدهم يتبادلون الرؤي والمقترحات. الآن ربما لم يختَط المتفاوِضون ذات النهج ولكنهم إجترحوا نهجاً لا يقل فعالية عنه، وهو العمل على ترجمة المواقف والرؤي التفاوضية فى سياق خطوات عملية باعثة على حسن النيّة ومحفِزة على التقدم، والتطور بإتجاه الحل النهائي.