أدخل مشروع القرار الذي قدمه نائب الكونغرس فرانك وولف عن دائرة فيرجينيا الحرج على الإدارة الأمريكية لتناقضه من حيث المبدأ مع قرار سابق صادق عليه الكونغرس بعنوان « قانون غزو هولندا» وتقضي بنوده بغزو لاهاي مقر محكمة الجنايات الأوربية (الدولية) ووقعّه الرئيس جورج بوش في أغسطس عام 2002م ومن أهم بنوده تفويض الرئيس الأمريكي بغزو هولندا واجتياح مقر المحكمة لتحرير أي مواطن يحمل الجنسية الأمريكية يتم توقيفه بتهم تعتبرها المحكمة ضمن اختصاصها، وهدد القرار بحجب المساعدات العسكرية عن أيّة دولة مصادقة على ميثاق روما المؤسس للمحكمة، وقصَر مشاركة القوات الأمريكية في عمليات السلام الدولية بالحصول المسبق على تعهد بعدم مساءلة هؤلاء في أيّة جرائم تقع ضمن اختصاص محكمة الجنايات الدولية، وقد استند القرار على واقعة سابقة في مايو من نفس العام حين أقدمت الولاياتالمتحدة على سحب توقيعها من ميثاق روما، في أول سابقة من نوعها لدولة ضمن الدول المؤسسة للقانون الدولي المعاصر وميثاق الأممالمتحدة، ثم قامت بممارسة الضغط على أكثر من مائة دولة لتوقيع اتفاقيات ثنائية لإعفاء الجنود الأمريكيين من أيّة مساءلة جنائية تقع على أراضيها، مما استمطر عليها النقد اللاذع من الناشطين والمنافحين عن العدالة الدولية المقربين فكرياً ونظرياً للفلسفة الغربية ومبادئ السياسة الأمريكية المعلنة في مضمار حقوق الإنسان، ومن هؤلاء المستر رتشارد ديكر مدير برنامج العدالة الدولية International Justice Program بمنظمة هيومان رايتس ووتش فاتّهم الحكومة الأمريكية بالسعي الممنهج لإضعاف حكم النظام والقانون في المجتمع الدولي، لا سيما أن معظم الدول المستضعفة ذوات الديمقراطيات الهشة التي استُدرجت للتوقيع على الميثاق تمثل غالبية أعضاء المحكمة، وضرب مثلاً بسيراليون و فيجي. لم تقتصر الانتقادات الدولية للقرار الأمريكي آنف الذكر على المنظمات الإنسانية، بل انضم العديدون للانتقاد وإلصاق أقذع التهم بالإدارة الأمريكية، ومن هؤلاء وليم بايس رئيس مجلس التحالف الدولي للمحكمة Coalition for the International Criminal Court فوصف القرار بأنه يجسّد أقبح أشكال التناقض وأضاف: « أنني كأمريكي أشعر بالعار إزاء الأكاذيب والنفاق الذي تمارسه حكومتنا والتراجع الكارثي لدورها القيادي فيما يتعلق بالقانون والعدالة الدولية إبان فترة إدارة الرئيس بوش». ما ذكر آنفاً جرت وقائعه عام 2002م ولم يكن أحد يتوقع آنذاك أن يُقدِم الكونغرس بعد عقد من الزمان وفي حالة شبيهة بغيبة الوعي ليلعق جميع بنود قانونه السابق الذي يعاقب من ينتمي للمحكمة الدولية بالحرمان من المعونات، فينكُس على رأسه ليطالب ذات الدول بتقديم كل مَنْ تدينه المحكمة التي نبذها لإصدار ما ترى من أحكام!؟ ولكن إذا كانت ذاكرة النائب وولف قد هرمت فلا ينفك عن الكيد وهو على مشارف الثمانين فلا يستبين منه حلم فيضحي كما قال الشاعر العربي: « وإن سفاه الشيخ لا حِلمَ بعده» فإن ذاكرة مدير برنامج العدالة الدولية لا تزال متوقدة، فكتب مقالاً بجريدة النيويورك تايمز في الأسبوع الماضي، هاجم فيه المحكمة بشراسة ووصفها بتكريس العشوائية واللامهنية والافتقار للمصداقية Flawed Court in Need of Credibility وأنحى باللائمة على فشلها في تحقيق العدالة الشاملة والنزيهة غير المنحازة impartial justice وأشار إلى كفالة أمريكا لإسرائيل، وكفالة الإتحاد الروسي لسوريا، كما أضاف بأن الدول الضعيفة كالسودان أضحت عرضة لقرارات مدعيّ المحكمة عبر تواطؤ مجلس الأمن، وأكّد أن المحكمة تفتقر للشمولية القضائية universal jurisdiction وأن ثلاثاً من الدول التي تتمتع بحق النقض (الڤيتو) في مجلس الأمن ليست أعضاء بالمحكمة مما يجعل من مسألة إحالة مجلس الأمن لمواطني بعض الدول للمحكمة فهلوة سياسية محضة تفتقر للمشروعية العدلية judicial legitimacy وناشد المحكمة بأن تعمل على فك الارتباط بمجلس الأمن لأنه بنظره يمثل تدخلاً في استقلالية القضاء باعتبار أن مجلس الأمن هو جهاز سياسي تنفيذي، وبالتالي فلا يتحقق الفصل بين السلطات الذي تقوم عليه مبادئ العدالة، مشيراً إلى ضرورة حذف المادة الموجودة بميثاق روما التي تخوّل لمجلس الأمن إحالة الدول غير المصادقة إلى المحكمة، لأن ذلك يجعلها ببساطة محاكمة سياسية وليست قضائية. وفي ختام مقاله طالب مدير برنامج العدالة الدولية المجتمع الدولي بالضغط على الدول الكبرى في مجلس الأمن وخاصة الولاياتالمتحدة بالانضمام لميثاق المحكمة لتحقيق شمولية القضاء، قبل تنصيب نفسها بنفاق فاضح كعرّاب للمحكمة، وتقديم الآخرين للعدالة التي تناقضها قوانينها، كما طالب الدول الأعضاء في الأممالمتحدة بأن تقوم على المستوى الثنائي بإجراء محاكمات وفق قوانينها المحلية للفصل في الجرائم التي يرتكبها أشخاص على أراضيها وتتعلق بتلك التي تعاقب عليها المحكمة، في إشارة صريحة إلى مقاومة أيّة إحالات من مجلس الأمن. تؤكد هذه الانتفاضات والمرافعات الوثابة أن صوت العقل قد لامس الضمير العالمي الذي لا يزال يتوفر على بقية من أهل الرشد الذين يحتفون بمكارم الأخلاق، ومكرمة إقامة العدل واقتلاع النفاق من الأرض. فهذا الواقع يؤكد على عدالة ورشد موقف السودان المبدئي الرافض للمحكمة الأوروبية وقراراتها الجائرة المبنية على انتهاك مبادئ سيادة الدول، والتفريق بينها لتجعل منها توابع ذليلة لعتاة المستكبرين الذين يأمرون ولكنهم لا يلتزمون. ويذكّر هذا بالموقف الذي اتخذه البرلمان الكيني برفض تقديم أي من المتهمين من الوزراء وكبار المسئولين للمحاكمة في لاهاي على الرغم من أن كينيا من الدول المصادقة على الميثاق، استناداً إلى أن كينيا دولة ديمقراطية والقضاء فيها حر ويتمتع بالاستقلالية، فلماذا لا تتم محاكمة الكينيين في بلادهم؟ فأثار إصرار محكمة لاهاي حفيظة دعاة التحرر والاستقلال بأن القصد هو تأكيد استدامة علاقة «السيد والعبد» التي ظلت تحكم علاقات هذه الدول مع الغرب منذ القرن الثامن عشر، عندما كان الأفارقة يُقتادون في السلاسل ليباعوا رقيقاً في أوربا ومستعمراتها عبر المحيط الأطلسي، فلما علمت أوروبا أن الحضارة والتقانة والاقتصاد في القرن الحادي والعشرين ستنزوي إلى الشرق للصين والهند وما جاورهما أرادت أن تجعل من المحكمة سيفاً تسلطه على رقاب القادة الأفارقة ليُقادوا كقطيع المعز الهائمة عبر التخويف والاستهداف والتفريق، فهل ينجح التكتيك؟ ظل الإتحاد الأفريقي، الذي تضم عضويته كتلة من 54 دولة، صامداً في رفضه للقرارات الجائرة الماكرة عبر مناشدته الدول الأفريقية عدم الاستجابة لقرار المحكمة ضد الرئيس عمر حسن البشير وتأكيداً لعدم قناعته بمبدأ الإحالة للدول غير المصادقة وبأنه يمثل قراراً سياسياً وليس جنائياً، فضلاً عن خطورة تُهم جرائم الحرب والإبادة، التي لا يمكن أن تطلق جزافاً وبقرارات سياسية تصدرها دول متنفذة دون تحقيق واثق ولا دليل دامغ. كما أن أوكامبو مدعيّ المحكمة هو مجرد موظف متعاقد، لم يتوفر على أي تفويض قانوني موثّق من أسر الضحايا الذين يزعمهم ويتقدم بتمثيلهم كوكيل دون توكيل، فهو ليس من أهل العصبة ولا العقيدة ولا الجنس، كما أن شهوده كلهم كالبعاعيت (الأشباح) والخفافيش لا يُروا ولا يعرف أحد عنهم شيئاً بحجة التستر عليهم، فهذه أكبر شبهة تطعن في عدالة المحكمة، فإذا كانت التهم بهذه الخطورة فيجب أن تكون الشفافية هي الأساس، وعلماً بأن أدلة الإثبات نفسها موضع تساؤل من الجميع مما جعل سلوك المحكمة أقرب لممارسات المافيا والعصابات السرية، وبالتالي فلا يمكن أن يطلق على مثل هذه الترهات عدالة دولية. فالرأي الدولي الغالب يرى أن على الاتحاد الأفريقي التمسك بمواقفه وعدم تقديم المزيد من الأفارقة ليحاكموا أمام القضاة الأوربيين ولتُقم أفريقيا محكمتها المستقلة بقضاة أفارقة مؤهلين لتثبيت مبدأ «حلول أفريقية للمشاكل الأفريقية» هذا من أهم المبادئ الأساسية الراسخة التي يقوم عليها كيان الاتحاد الأفريقي وتعتمده السياسة الخارجية السودانية. نقلا عن صحيفة الصحافة 6/6/2012