فى ظل صعوبة التقليل والإستهانة بالأزمة الإقتصادية الحالية التى يمرّ بها السودان والتى إستدعت إتخاذ الحكومة لحزمة من تدابير اقتصادية وإدارية صعبة وغير مسبوقة فإن من الطبيعي -فى ظل هذه الإجراءات التقشفية الصعبة- أن ترتفع وتيرة الغضب الشعبي هنا وهناك، وأن تقع الإحتجاجات والتظاهرات بصرف النظر عن سلمية بعضها، وغلواء البعض الآخر وإضطرار الشرطة لكبح جماح الذين يمارسون التخريب وإتلاف الممتلكات العامة. نقول من الطبيعي أن يحدث ذلك لأن الحكومة السودانية لا يمكنها أن تتوقع أن تمر مثل هذه التدابير الصعبة مروراً سلساً من جهة، كما أنه لا يمكن ان تعتقد أن شعبها قابل لتقبل أىّ إجراءات تمس معاشه بإستكانة ورضاء وعن طيب خاطر. فالأمر فى مجمله يقع ضمن سياق معادلة منطقية. هناك أزمة تحمّلت الحكومة تداعياتها ووضعت شعبها فى الصورة، وهناك شعب واجه صعوبة فى تمرير التدابير كنتيجة طبيعية لعنصر الصدمة الذى أربك حساباته اليومية. ستعاني الحكومة حتى تعبر الجسر، وسيعاني شعبها حتى تمر العاصفة؛ وسيعاني الإثنان من بعضهما بعضاً، الى حين إنجلاء الموقف كله فى غضون أشهر معدودات. المعادلة بكاملها لا غبار عليها لو تحدّدت حدود الطرفين وتمسك كل طرف بالواقعية بعيداً عن الغضب الأعمي، أو الحسابات غير المنقطية. غير أن هنالك ما يستوجب النظر والتدقيق بعيداً عن خضم هذه الازمة، فقوي المعارضة حالياً تحرِّض سراً وعلانية على التظاهر وإيصال الأمور الى منتهاها غير عابئة بفائدة التدابير المتخذة، ولا مدركة لمآلات الأمور اذا ما مضت بإتجاه المواجهة. ذلك أن حزمة الإصلاح التى تنفذها الحكومة السودانية حالياً هى فى جوهرها وبكاملها مطلب رئيس من مطالب قوى المعارضة، خاصة فيما يتعلق بإعادة هيكلة الدولة وتقليص الجهاز الحكومي وضغط الإنفاق العام. لقد نفذت الحكومة السودانية هذه المطالب بحذافيرها وبقدر عالٍ من الهِمّة والجدية لا ينكره حتى المكابرين، وهذه وبصرف النظر عن كل شيء بمثابة خطوة إصلاحية جيدة كان من المؤمل أن تلتقطها قوي المعارضة وتبني عليها موجهات اصلاحية أخري، ذلك ان نجاح قوى المعارضة لا يُقاس فقط بنجاحها فى إسقاط السلطة، إذ من الممكن أن يصبح تبني السلطة لإصلاحها ومطالبها -ولو تدريجياً- نجاحاًَ لها تستطيع بناءً عليه أن تمضي فى إتجاه إحراز المزيد من الإصلاحات. الأمر الثاني فإن قوى المعارضة وبعض المحتجين يتناسون أمراً مهماً للغاية وهو أن السودان جري إنهاكه طوال عقدين من الزمان، على الأقل بحروب أهلية داخلية قلَّ أن تصمد حيالها سلطة حاكمة وكان من المستحيل ان تصمد حيالها وحدة البلاد؛ كما أن متمردي المناطق التى حُمِلَ فيها السلاح لم يكونوا يبالون فى أن تمردهم هذا ربما يفضي الى إفراغ خزانة الدولة من المال، فالحروب تكلف الكثير من المال والسلاح ومن المفروغ منه أن هؤلاء المتمردين هم الذين بادروا بإشعال هذه الحروب ولهذا فإن كانت هنالك نظرة موضوعية منصفة، فإن من الإنصاف القول إن الحركات المتمردة سواء فى دارفور أو جنوب السودان أو جنوب كردفان أو النيل الازرق هى التى أسهمت فى إضعاف وتأزيم الوضع الاقتصادي فى السودان، خاصة فى ظل رفضها غير المبرر للعملية السلمية والمفاوضات، فليست هى الحكومة السودانية من تتحمّل تداعيات هذه الأزمة كما يشيع البعض ويرسخ فى الأذهان؛ المتمردون يتحمّلون القسط الأكبر من هذه الازمة. الأمر الثالث –وهو الأهمّ– فإن الذين يحتجون –وإن جاز لهم الاحتجاج والغضب– فإن من الضروري أن ينظروا الى الواقع بعين فاحصة، إذ أنّ الاحتجاج ومهما كانت درجته أو العنف الذى يصاحبه لا يسقط السلطة القائمة، إذ أنها ليست مجرد سلطة سياسية عابرة مثل الحكومات العربية التى اجتاحها الربيع العربي، هى فى الواقع منظومة جماهيرية وطنية جذروها ممتدة داخل البيوت والأسر السودانية، وقد زاد من تمتين جذورها ظهور حزام عنصري ذي صبغة افريقية علمانية هى الأبعد تماماً عن واقع غالب السودانيين، وهى حقيقة يدركها السودانيين فى قرارة أنفسهم ويعلمون أن موجة العنف اذا بلغت منتهاها فقد تقود الى نموذج تفكيك لا يرضاه أحد . وعلى ذلك فإن الأمر فى حاجة الى تدقيق، ونظر موضوعي ثاقب، فى ظل مخادعات قوي المعارضة التى تبالغ فى أحلامها وتود جرّ البسطاء الى فضاء أحلامها الفارغ من كل محتوي!