بدت واشنطن قلقة وفى الوقت نفسه مترددة حيال الأوضاع الحالية فى السودان، فهي -كما تدرك وتري- تعلم أن الحكومة السودانية وبقدر غير قليل من الثقة بنفسه فضلت مواجهة مواطنيها بالحقائق وشرعت من ثم على الفور فى المعالجات، وواشنطن تدرك ايضاً ان هذا هو أقصي ما تفعله أىّ حكومة مسئولة، وأن ما فعلته الخرطوم حتى الآن فشلت فيه جوبا، مع أن أزمة جوبا أشد وأخطر وسبق أن ورد عنها تقرير إقتصادي مفصل عن البنك الدولي تنبأ بإنهيارها مطلع يوليو المقبل. هذا القلق والتردد الامريكي تمخض عن بيان خجول، قليل الأسطر وجهته واشنطن على إستحياء لرعاياها فى السودان بأخذ الحيطة والحذر فى تنقلهم فى العاصمة السودانية الخرطوم. كان واضحاً أن واشنطن تود مجاملة بعض من لديهم صلة بها من قوي المعارضة حتى تشيع مناخ عام من الهواجس فى الخرطوم بأن هنالك (شيء ما يجري)، وفى الوقت نفسه كانت واشنطن تريد أيضاً أن تكون واقعية حيال قراءتها للأحدات حتى لا تأخذها أهواءها السياسية بعيداً وتجرفها عن الواقع الحقيقي. ولهذا فقد كان من الطبيعي وقد قرأت الخرطوم هذا الموقف الامريكي المتذبذب أن تقلل منه حيث وصف المتحدث بإسم الحزب الوطني الحاكم فى السودان بروفسير بدر الدين إبراهيم البيان الامريكي بأنه أمر روتيني وإتهم فى ذات السياق الادارة الامريكية بقيادة مخطط لزعزعة استقرار السودان ودعم قوى المعارضة بغية إسقاط النظام . البيان الامريكي الخجول فى الواقع بدا وكأنه ضربة بداية لما يمكن أن نسميها (حرب بيانات) لجأت اليها بعض قوي المعارضة السودانية، وبعض الأحزاب (فاقدة الوزن) فى محاولة يائسة لإظهار الأزمة وكأنها كارثة قومية سقط فى براثنها السودان. وقد احتشدت المواقع الإسفيرية بعشرات البيانات التى يتم تذييلها عادة بمسمي حقوقي أو حزبي أو منظمة مجتمع مدني، ولكن يكون واضحاً أن (كاتبها) ليس سوي (شخص واحد) لم يلاحظ فى غمرة إنهماكه فى تسويدها أنها خرجت جميعها (بأسلوب واحد)! فقد نسي كاتب هذه البيانات أن يمحو بصماته التى من السهل على أىّ قارئ متوسط الذكاء أن يتمكن من رفعها من مسرح الأكذوبة! لقد أتاحت هذه المواقع فرصاً ذهبية للبعض للكذب بإسم أحزاب ومنظمات مجتمع مدني بصورة غير مسبوقة، ذلك أن المنطق يقول أنه لو كان صحيحاً ان هذه الجهات كلها –صاحبة هذه البيانات– تقف موقفاً معادياً للسلطة القائمة وتسعي لإسقاطها، فقد كان من السهل أن تخرج الى الشارع (بياناً بالعمل) وفى معية جموع مواطني السودان لتحقيق هدفها؛ لا أن تكتفي ببيانات إنشائية مبنية على أحلام ومجرد تهيئات لا وجود لها فى أرض الواقع. ولا يفوتنا أن نشير هنا الى ان الرئيس البشير نفسه أكد أنه قام بجولة شاملة فى أنحاء مختلفة من العاصمة الخرطوم بحثاً عن (مواطنين متظاهرين) ولكنه لم يجد، والرجل بحكم ماعُرف عنه شديد الالتصاق بمواطنيه فى مناسابتهم اليومية، وهى خصلة عرفت عنه وسط المؤيدين والمعارضين على السواء؛ وقد كان بإمكانه أن يلحظ ما تقوله بيانات الاسفير لو كانت صحيحة. إن أحداً لا ينكر ان هنالك الآن أزمة فى السودان بسبب الأداء الاقتصادي للدولة وأن معالجتها صعبة وتقتضي تضحيات وجراحات، وأن بعض قطاعات المواطنين السودانيين احتجت ورفضت تصاعد موجات الغلاء، ولكن الأمر لم يصل الى درجة السعي لإسقاط النظام. شعب السودان يعلم أن الإصلاح أفضل من البحث عن (بدائل مجهولة) ووصفات جرت تجربتها من قبل وفشلت!