قللت الحكومة السودانية من قيمة الوعود الأمريكية التي أطلقتها واشنطن مؤخراً بتقديم مساعدات للسودان نظير قيامه بإعلان وقف فوري لإطلاق النار فى كل من جنوب كردفان والنيل الازرق. المتحدث باسم الخارجية السودانية العبيد أحمد مروح قال للصحفيين -الأحد الماضي- ان السودان لم يعد يعول سلباً أو إيجاباً على وعود واشنطن، وأفاض المروِّح فى شرح طبيعة التعاطي الأمريكي مع السودان القائم على بالونات الوعود الفارقة السابحة فى الهواء . ويبدو ان واشنطن – التى لا تمل من تقديم الوعود – لم تعد تملك خيارات بشأن تعاملها مع السودان ضغطاً أو ترهيباً او تقديم حوافز . السودان من جانبه هو الآخر استطاع ان يوفق أوضاعه على كافة الأصعدة، مستنداً على تجربة عقدين من الزمان مع واشنطن والتكيُّف مع سياساتها المتذبذبة، بحيث يمكن ان نخلص فى هذه النقطة الى ان واشنطن لم تعد متحمسة بالقدر الكافي الذى تتوقعه بعض القوى المعارضة -خاصة الحركة الشعبية فى الشمال- لملاحقة الحكومة السودانية بالضغوط والقرارات والمسلسل المعروف من الأعمال العدائية المغلفة بسياسات حريرية ناعمة. ربما تدرك واشنطن بحساباتها الخاصة جداً ان القوى السودانية المعارضة ليست خياراً جيداً، أو ربما تدرك صعوبة استئصال جذور الحكومة السودانية، وان اى مساس بهذا البنيان ربما يفضي الى سلسلة لانهائية من العنف وتجربة أفغانستان والعراق حاضرة فى ذهنها لم تغب عنها ولو للحظة. نحن إذن حيال نهج أمريكي غير معلن بترك تفاعلات الأزمات فى السودان تعالج نفسها وان تظل المعادلة بالكيفية القائمة لتتدرج وفق تطور طبيعي يفسح مجالاً للقوى المعارضة لتعمل ضمن إطار سلمي على وقع خطي الديمقراطية المتنامية. ان من الهم جداً هنا الإشارة الى ان واشنطن تدرك في قرارة نفسها وداخل مطابخها السياسية ان السودان لم يعد (يبالي) كثيراً بما تهدد به او تطلبه بصوت هادئ او تحاول انتزاعه، فالقوى العظمي كغيرها من الدول لها نقاط ضعفها وأخطائها ومخاوفها. ومع ذلك فان قراءة الطلب الأمريكي بوقف إطلاق النار فى جنوب كردفان والنيل الازرق مقابل مساعدات لا يعدو كونه مؤشراً على ان واشنطن فقط تبحث عن ما يرضي الحكومة السودانية ويريحها فى ذات الوقت من (صراخ) الحركة الشعبية فى الشمال المتصل بصراخ آخر من الحركة الشعبية فى جمهورية جنوب السودان . أكثر ما يعني واشنطن هنا- وقد التقطته أذهان القادة السودانيين بسرعة - هو أن لا تتعرقل عمليات النفط ولا تتأثر حقوله ولا تضطرب الأوضاع فى مناطق التماس لتضيع مصالحها النفطية فى المنطقة . كما ان واشنطن لا تبدو راغبة فى الدخول فى مغامرة وصول قادة معارضين الى السلطة فى السودان أبعد ما يكونوا عن رجال الدولة القادرين على السيطرة علي الأوضاع دون أن يتسببوا فى تأزم المنطقة بأسرها. فى الواقع تملك الخرطوم حالياً مزايا عديدة فى تعاملها مع واشنطن وهو ما يشكل غُصّة بدرجة ما فى حلق القوى المعارضة وحملة السلاح ولا يعرفون لهذا الموقف حكمة، ولكن فات عليهم ان حسابات السياسية والمصالح الاستراتيجية أعقد مما يتصورون !