بالطبع لم يكن أمراً مفاجأً أن يعقد نائب القائم بالأعمال الأمريكي بالخرطوم (لقاءات) و(مشاورات) من وراء ظهر الحكومة السودانية مع قوي معارضة ، لبحث الإطاحة بالسلطة القائمة فى الخرطوم؛ فالأمر معتاد ومألوف من جانب الإدارة الأمريكية على الرغم من مصادمته الصريحة والمباشرة لمقتضي العمل الدبلوماسي والتقاليد المرعية فى العلاقات الدولية؛ فالتوصيف القانوني لهذا المسلك هو تدخل معادي وسافر فى الشأن السوداني ، يتطلب من الخارجية السودانية – على الأقل هذه المرة – اتخاذ إجراء واضح حياله. غير ان الامر الذى كان مفاجأً للجانب الأمريكي ان ترفض بعض القوى المعارضة هذا المسلك، حيث أشارت الأنباء الى ان سكرتير عام الحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد، رفض المسلك الأمريكي برمته على أساس ان القوى السودانية المعارضة –وحدها– دون غيرها هى المعنية بكيفية التعامل مع السلطة القائمة . هذا الموقف من جانب الحزب الشيوعي السوداني ممثلاً فى أمينه العام هو دون شك موقف وطني ، وإذا ما واصلت واشنطن مسعاها هذا فسوف تجد ان مثل هذا الموقف لن يكون قاصراً على الحزب الشيوعي وحده ، فبقية القوى الوطنية المعارضة – بعيداً عن الحركات المسلحة – ربما وقفت ذات الموقف ، ولعل هذا يعطي واشنطن الصورة الحقيقية الغائبة عنها فى سياستها التى يصح ان نصفها بأنها رعناء حيال مجمل المشهد السوداني . واشنطن تنظر باستخفاف للشأن السوداني وتعتقد ان بإمكانها فعل اى شئ واللعب بكافة مكوناته لمجرد ان بعض القوى المسلحة التى تقاتل الحكومة السودانية مستعدة لتنفيذ كل ما تطلبه منها واشنطن وربما جاء هذا الالتباس فى ذهن الأمريكيين من واقع تعاملهم مع أمثال ياسر عرمان وعبد الواحد محمد نور وهم نشأوا وترعرعوا فى مزارع الحزب الشيوعي السوداني وانتهي بهم المطاف الى ان يصحبوا (خدماً) فى قصرها المنيف! موقف سكرتير عام الحزب الشيوعي هنا زاخر بإشارات عديدة منها ما يتصل بإرسال رسائل لسواقط الحزب الذين عرفوا بانتمائهم له، ولكنهم أصبحوا أكثر تأمركاً من الأمريكيين أنفسهم ، وفارقتهم الدماء السودانية والنبض الوطني، ومنها ما يتصل بإشارة حمراء مهمة لواشنطن نفسها بأن من (تعتمد عليهم) أمثال هؤلاء لا مستقبل هم ولا أثر لهم فى الحياة السياسية العامة في السودان ، فهم أبعد ما يكونوا عن محبة بلادهم بقدر ما هم ناقمون عليها ، وصار كل طموحهم ان يسهموا فى تدميرها وتشتيت قواها و بعثرتها . إنه سوء التقدير الأمريكي الذى ظل ملازماً لها منذ مستنقعات فيتنام مروراً بما يجري الآن فى العراق وأفغانستان ، فالولايات المتحدة مصابة (بحَول) سياسي لا يمكنها النظر من خلاله الى الحاضر والمستقبل جيداً. وعلى كل فان المغزى من الموقف كبير ، وفيه سانحة للخرطوم كي تهز جزع علاقاتها بواشنطن، فالأخيرة ترتكب الأخطاء باستمرار بتقديرات و حسابات خاطئة، والخرطوم تري هذه الأخطاء ولكنها لا تستخدمها كورقة قادرة على فعل الكثير !